ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس بداية الشهر المريمي وتكريس كنيسة بيت مريم في بازيليك سيدة لبنان – حريصا، عاونه فيه المطرانان حنا علوان وبولس روحانا، أمين سر البطريرك الاب هادي ضو، الرئيس العام لجمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة الأب مارون مبارك، رئيس مزار سيدة لبنان الاب فادي تابت، ومشاركة لفيف من المطارنة والكهنة والراهبات، في حضور رئيس بلدية درعون _ حريصا المهندس نزار الشمالي والمختار انطوان صقر وحشد من الفاعليات والمؤمنين الذين التزموا الإجراءات الوقائية.
بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان: “ها منذ الآن تطوبني جميع الأجيال” (لو 1: 48)، قال فيها: ” في عيد سيدة لبنان، نلتقي ككل سنة حول أمنا مريم العذراء في بازيليك حريصا، وعيوننا وقلوبنا شاخصة إلى تمثالها، ونقرأ من خلاله حنان أمومتها، ونلتمس فيض النعم والبركات السماوية من يديها المبسوطتين نحو أرضنا. نلتقي في مسيرة الأجيال لنعطيها الطوبى على ما هي، وعلى ما صنع الله لها من عظائم في تدبيره الخلاصي. فكانت تحفة الفنان الإلهي، ومثالا لما يصنعه الله في كل كائن بشري مؤمن يفتح قلبه له. ولذا، أطلقت مريم، من بيت أليصابات، هذا النشيد النبوي: ها منذ الآن تطوبني جميع الأجيال، لأن القدير صنع لي العظائم (لو 1: 48-49). يطيب لنا في المناسبة أن نكرس، بعد هذا القداس الإلهي، كنيسة بيت مريم التي أنشئت بفضل متبرعين، نشكرهم ونلتمس من الله، بشفاعة أمنا السماوية، أن يفيض عليهم المزيد من نعمه وبركاته. نوجه تحية شكر وتقدير إلى جمعية الآباء المرسلين اللبنانيين الموارنة، بشخص رئيسها العام قدس الأب مارون مبارك ومجلس الشورى، الذين يؤمنون الخدمة الروحية والإدارية للمعبد والبازيليك وما يتصل بهما، تحت ولاية البطريركية. فمنذ التأسيس وهم يتفانون في هذه الخدمة، ويوسعون الأبنية. فنحيي رئيسها الحالي عزيزنا الأب فادي تابت والآباء معاونيه. إن هذا الأحد مخصص ليكون يوم صلاة من أجل مسيحيي الشرق، بمبادرة من مؤسسة L’uvre d’Orient، بشخص مديرها العام المونسينيور بسكال Gollnisch. ستقدم بين النيات نية خاصة بمسيحيي الشرق والمحسنين الفرنسيين، وفي الختام صلاة شكر”.
وتابع متوجها الى السيدة العذراء: “يا أمنا مريم سيدة حريصا، بارتفاعك على هذه الهضبة، كم تجتذبين من قلوب وأنظار يحيونك ويصلون إليك: هذا الذاهب إلى وظيفته وعمله، وذاك العائد إلى بيته؛ هذا العجوز وذاك المريض يدعوك من فراش ألمه ومرضه ووحشته؛ هذا الفقير وذاك الجائع، والمحتاج؛ هذا الحزين وذاك القلق؛ هذا السائح وذاك الرياضي؛ هذا القريب وذاك البعيد؛ هذا الآتي إليك في النهار وذاك الآتي عند المساء أو في الليل؛ جميعهم يرفعون إليك الطوبى، ويعظمون الله معك، ويوجهون إليك محبتهم وصلاتهم، ويرفعون رغبتهم وطلبهم بدالة البنين. وأنت، يا مريم، من كنز أمومتك الفياض توزعين نعم السماء على كل مؤمن ومؤمنة. هذا الدعاء البنوي إلى أمنا السماوية مريم العذراء، له أصوله ومبادئه اللاهوتية بحسب تعليم الكنيسة”.
وقال: “الإنسان يسوع المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والبشر الذي قدم ذاته فدى عن الجميع، على ما يعلم القديس بولس (1طيم 2: 5-6). فلأنه لا يوجد إلا إله واحد، واحد أيضا هو الوسيط بين الله والبشر (المرجع نفسه). أما أمومة مريم تجاه البشر فلا تحجب وساطة المسيح الوحيدة ولا تنتقص منها، بل تبين فعاليتها. فكل تأثير خلاصي وساطي للسيدة العذراء في حياة البشر، إنما ينبع من فيض إستحقاقات المسيح، ويتأسس على وساطته الوحيدة، ويسهل الإتحاد المباشر بين المؤمنين والمسيح (الدستور المجمعي العقائدي، نور الأمم، 60). الإنسان يسوع المسيح هو الفادي الوحيد لكل الجنس البشري. في هذا التدبير الإلهي، مريم هي شريكة الفداء. فقد شاءها الله، في تصميم تجسد الكلمة، أما للإله، وشريكة في عمله الخلاصي بشكل مطلق وفريد، وأمة للرب الوضيعة. فإذ حبلت بالمسيح وولدته، وغذته، وقدمته للآب في الهيكل، وتألمت معه مائتا على الصليب، فقد شاركت بشكل خاص للغاية في عمل المخلص والفادي، بشديد الطاعة والإيمان والرجاء والمحبة، من أجل ترميم الحياة الفائقة الطبيعة في النفوس. وهكذا أصبحت لنا أما على صعيد النعمة (نور الأمم، 61)”.
أضاف: “إن أمومة مريم في تدبير النعمة تدوم من دون توقف.، فبإنتقالها بالنفس والجسد إلى السماء، وتكليلها سلطانة السماء والأرض، تواصل دونما إنقطاع وظيفتها الخلاصية. وبتشفعها المتنوع تستمد لنا العطايا التي تؤمن خلاصنا الأبدي. وهكذا بمحبة الأمومة تعتني بإخوة إبنها المسافرين في بحر هذا العالم بين الأخطار والمحن، حتى وصولهم إلى الوطن السعيد (المرجع نفسه 62). إستنادا إلى هذه المبادئ اللاهوتية، تتضرع الكنيسة إلى الطوباوية مريم العذراء وتدعوها محامية ومعينة ومساعدة ووسيطة. هذه الألقاب لا تقلل من كرامة المسيح وقدرته، بوصفه الوسيط الأوحد، أو تزيد عليها. فكما أن جودة الله الواحد تفيض حقا على الخلائق بصورة متنوعة، كذلك وساطة الفادي الوحيدة لا تقصي بل تبعث تعاون الخلائق بطريقة مختلفة، نابعا من المصدر الواحد (المرجع نفسه 62). بما أن جودة الله تفيض على الجميع، لكي تظهر في أعمالهم ومواقفهم ومبادراتهم، نصلي من أجل أن ندرك جميعا هذه الجودة المجانية، ونبين إنعكاسها فينا، كما فعل الآباء والأجداد عبر العصور. فنحن شعب يملك طاقات الصمود للدفاع عن كرامته وحقه وهويته واستقلال وطنه وحدوده، رغم كل المصائب التي حلت به في السنوات الأخيرة. واليوم، على الرغم من الأزمة السياسية والضائقة الإقتصادية والمعيشية، ندعو الشعب للحفاظ على هذا الكيان اللبناني، ولإعادة تجميع طاقاته وقدراته وروحه المنتفضة، فلا يفقد الأمل بالمستقبل. الظلمة وراءنا والنور أمامنا. ومن شأن النور أن يمزق طبقات الظلام. فلن ندع لبنان يسقط”.
وقال: “لأننا نناضل لمنع سقوط لبنان، نجدد النداء إلى المعنيين بتأليف الحكومة ليسرعوا في الخروج من سجون شروطهم، ويتصفوا بالمناقبية والفروسية، ويعملوا، بشرف وضمير وإصغاء مسؤول إلى أنين الشعب، على تشكيل حكومة قادرة تضم النخب الوطنية الواعدة. وإذ نلح على موضوع الحكومة، فلأننا نخشى أن يهمل وينسى في مجاهل لعبة السلطة داخليا وفي صراع المحاور إقليميا. هناك من يعمد إلى دفع لبنان نحو مزيد من الانهيار لغاية مشبوهة. وإنا إذ نكرر الدعوة لإعلان حياد لبنان الإيجابي الناشط، وتلازما لعقد مؤتمر دولي خاص بلبنان برعاية منظمة الأمم المتحدة، فلكي يكون مصير لبنان مستقلا عن التسويات الجارية في الشرق الأوسط، ولو على حساب حق شعوب المنطقة في تقرير مصيرها. أما نحن اللبنانيون فمسؤولون عن تقرير مصيرنا الحر والسيادي، بعيدا من تأثير أي مساومة، أو تسوية من هنا وهناك وهنالك. دورنا أن نواصل النضال من أجل استعادة القرار الحر والسيادة والاستقلال وسلامة كل الأراضي اللبنانية. لا يمكن أن يكون لبنان سيدا ومستقلا من جهة، ومرتبطا بأحلاف ونزاعات وحروب من جهة ثانية”!.
وختم الراعي: “عليه، نحن نؤيد تحسين العلاقات بين دول المنطقة، على أسس الاعتراف المتبادل بسيادة كل دولة وبحدودها الشرعية، والكف عن الحنين إلى السيطرة والتوسع. ونتمنى أن تنعكس أجواء التقارب المستجد على الوضع اللبناني فيخف التشنج بين القوى السياسية، وتنسحب من الصراعات والمحاور ما يسمح للبنان أن يستعيد حياده واستقلاله واستقراره. ونطالب هذه الدول بأن تنظر إلى القضية اللبنانية كقضية قائمة بذاتها، لا كملف ملحق بملفات المنطقة. إننا برجاء وايمان وطيدين نكل حياتنا ووطنا لبنان إلى عناية أمومة الكلية القداسة مريم العذراء، ونطوبها رافعين معها نشيد التسبيح لله صانع العظائم لها وللكنيسة، ممجدين الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد. آمين”.