كتب الإعلامي سامي كليب في موقع ٥ نجوم:
لم تبق موبقةٌ واحدة أو فاجعة أو مأساة لم تُرتكب بحق الشعب اللبناني من حرب أهلية الى فِتَن متنقلة الى بيع الوطن والكرامات للخارج الى قطع المياه والكهرباء وسرقة أموال المودعين وموت الناس على أبواب المستشفيات وتدمير السياحة والتعليم والضمان الصحي وغيرها….. لا داعي للسؤال عن سبب نجاح مجموعة من السياسيين ورجال المال في ذلك، فالموروث المذهبي والطائفي والقلق على لقمة العيش، وانعدام الثقة بالانتخابات وصلابة الغرائز، كلها أسبابٌ جعلت قسما كبيرا من الشعب يقبل بالظُلم، وقسما آخر يعتقد أن هذا الظُلم طبيعي، وقسما ثالثا ينتفض دون تخطيط مسبق ومشروع متكامل وقيادة تعرف كيف تُلهب الشارع وتحاور من منطلق القوة.
الآن يتم تصويرُ المُشكلة الكأداء في تأليف الحكومة بعد صراع التكليف، على أنها بسبب توزيع الحقائب وطوائف الوزراء وانتماءاتهم. بينما المُفترض وفق الرغبات المُعلنة محليا ودوليا أن يكون التشكيل على أساس الإختصاص والإستقلالية. لا بأس ان يتم تسليم المتخصص بالشؤون الخارجية أو بالثقافة أيضا وزارة الزراعة، ففي هذا الوطن كل الُمستحيل بات مُمكننا.
هكذا يتم تصوير المُشكلة لكن الحقيقة هي في مكان آخر تماما، تبدأ بعدم وجود “وصيٍ خارجي ” واضح -بسبب الضبابية الاقليمة والتنافر الدولي- في بلد تعوّد على الأوصياء من الخارج والبيادق والأزلام في الداخل، وتمرّ في البحث عن تعديل نظام الطائف، وتصل الى الإعداد المسبق لانتخابات رئاسة الجمهورية. وفي هذا كلّه تبرز مسألة السلاح، كعامل أساس في المعركة وشد العصب بإنتظار إنسحار ضباب الخارج أو تلبّده استعداد لحرب. كيف ؟
ثمة طرفٌ أول يضم مروحة جيدة من الأطراف السياسية والمالية ومدعوم عربيا ودوليا، يعتبر أن الفُرصة باتت مؤاتية لإضعاف حزب الله وجعله يقبل بتسليم سلاحه في أفضل الأحوال، أو ينكفئ خشية تعرّضه لضربة إسرائيلية ستُلاقي حتما مؤيدين في الداخل.
وثمة طرف ثان، يعتبر أنه إنتصر على إسرائيل، وساهم في قلب المعادلة في سورية، وامتد تأثيره الكبير الى اليمن والعراق، وله أذرع طويلة في الداخل الفلسطيني، وهو بالتالي يريد ضبط السياسة الداخلية اللبنانية على نحوٍ يُحصّن مشروعه الإقليمي ويقوّي حلفاءه في الداخل، ويحافظ على غطاء من الطوائف الأخرى بحيث يتحالف عضويا مع بعضها ويعرف كيف يجعل بعضها الآخر يدق على أبواب الحاج وفيق صفا كلّما إحتاج أمرا سياسيا كبيرا أو طلبا إداريا أو أمنيا أصغر. وهذا الطرف، أي حزب الله، يعتبر أن تسليم سلاحه مزحة ثقيلة الظل، وأنه في أوج الصدمة السورية لم يفعل، فكيف الآن؟
كانت قضية السلاح هذه مسكوتا عنها، بحيث أن “الوصي الخارجي” والفذلكات الدستورية الداخلية التي غالبا ما تحرّكت على وقع الوصي الخارجي، إجترحت معادلة، خدمت الطرف الثاني، وجعلت الطرف الأول يقبل على مضض، وهي معادلة ” الجيش والشعب والمقاومة”. كما أن حزب الله صار في البرلمان وفي الحكومات، وهو اذ قَبِل بأن يكون وجوده في الوزارات ضيئلا قياسا الى حجمه الحقيقي المستند الى شعبية واسعة وقوة سلاح لم يعرف لبنان نظيرا لها، فلإدراكه بأن التمثيل ليس هو المُهم طالما أنه بات بيضة القبّان وصاحب القرار المفصلي في الكثير من الامور داخل لبنان وفي مساحة عربية أوسع بكثير.
خلاصة القول إن المشكلة الحالية في تأليف الحكومة هي التالية:
· صراعٌ أول بين طرفين محليين واقليميين ودوليين من الصعب حسمه حيال سلاح حزب الله. طرفٌ متمسّك به كجزء من معادلة محلية إقليمية ودولية كبيرة. وطرف مطالبٌ بنزعه، ايضا كجزء من معادلة محلية واقليمية ودولية كبيرة
· صراعٌ ثانٍ حول تقاسم الصلاحيات بين رئاسة الجمهورية المسيحية التي تشعر بالغبن منذ اتفاق الطائف، وبين رئاسة الوزراء السُنّية التي لا تريد أن تُصبح استشارة الرئاسة في تأليف الحكومة عُرفا، في بلد ركلت أعرافُه كل الدساتير منذ الاستقلال .
· صراعٌ ثالث على رئاسة الجمهورية، يفترض قلب التحالفات، وعض أصابع، وقطع أياد اذا تطلّب الأمر قبل موعد الاستحقاق الرئاسي.
حين يصلُ الصراع الى هذه الحدود، يُصبح الإنفجار الأكبر واردا. لكن التفجير الأمني تماما كما التسويات الكبرى ، يحتاجان الى ” وصيٍ خارجي”. فالقضاء على الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط، وكذلك على منظمة التحرير، وعلى القوات اللبنانية وعلى تمرّد العماد ميشال عون وغيرها من الأطراف التي كانت تملك سلاحا كبيرا، تمّ بتسويات اقليمية دولية، وغالبا ما كانت تسويات سورية-أميركية ، أو سورية-أميركية-سعودية، أو إسرائيلية-أميركية-غربية ( مع تأييد أو سكوت بعض العرب). وحين كان يسقط أي سلاح، كان الطرف الخارجي هو الذي يتمدد في لبنان، لأن الساسة اللبنانية قبلوا أن يكون شعبهم لحما لمدافع الآخرين وأن يكونوا هم مجرد بيادق.( وهذا ينسحب على الجميع تقريبا في التاريخ اللبنانية الا ما ندر بعيدا عن التصريحات والعنتريات التي نسمعها اليوم) .
هنا أيضا لبٌ من المشكلة. فالأطراف السياسية اللبنانية منقسمة بين :
· فريقٍ قائلٍ بأن عودة التفاوض الإيراني الأميركي سيدعم حزب الله وحلفاءه ( خصوصا الرئيس ميشال عون ورئيس التيار الوطني جبران باسيل) وأن الصدام الأميركي الغربي المُحتمل مع الصين وروسيا سيقوي شوكة المحور الذي تقوده إيران لإزعاج أميركا. هنا يصبح سلاح الحزب مهما في المعادلات الكبرى.
· وفريقٍ مؤكدٍ بأن فشل التفاوض وشراسة الرسائل الأميركية الأولى في سوريا وضد روسيا والصين، وعودة إسرائيل بقوة مع بعض الدول العربية لإعاقة الملف النووي، عواملُ من شأنها إضعاف إيران وحزب الله وسورية والإستمرار في تطويقهم، فلا بد من التركيز على سلاح الحزب بانتظار المعادلات الكبرى.
مثلث الاسباب هذه ( أي السلاح والصلاحيات والانتخابات الرئاسية) هو ما يؤخر تأليف حكومة. وهو ما يُنذر لبنان بالأسوأ، وهو ما سيجعل الدول الغربية والشرقية تتحرك على الساحتين اللبنانية والسورية وفقا لصراعها أو تقاربها، وهو ما قد يدفع لبنان الى انفجار أمني أوسع، كما كل الإنفجارات التي سبقت إعادة صياغة الوضع اللبناني الهش من قبل ” الوصي” أو “أوصياء ” الخارج.
أثبتت الطبقة السياسية اللبنانية مرة جديدة عجزا مُريبا وكئيبا في انتاج حل. ففي لبنان طرف ينتصر عسكريا، وليس لديه بدائل سياسية واقتصادية لانقاذ الشعب الجائع والفقير ويعجز عن صد العقوبات والحصار رغم انه كان يتوقّعها، وطرف لا يستطيع انتزاع سلاح الحزب بالقوة فيرمي عليه أسباب كل مشاكل الوطن، بينما ظُلم الشعب بدأ منذ عقود طويلة. ولا بأس أن يكون التلاعب بسعر الليرة والدولار جزءا من المعركة.
ثمة حلٌّ واحد فقط مُمكن حتى ولو كان طوباويا، وهو أن يُدرك الشعب حجم الظُلم الذي يتعرّض له منذ سنوات مديدة، ويقرّر أن يتوحّد حول مشروع انقاذي واضح، يحمي الداخل ويصون الحدود ، ويفتح آفاقا واسعة للتغيير عبر الانتخابات، بدلا من اقتصار الأمر على قطع الطرقات الذي يفيد الطبقة السياسية أكثر مما يضرها. هذا حلم، لكن لا خلاص الا به، والاّ فإن الآتي مخيف. ولو كانت الأطراف السياسية قادرة على انتاج حل، او بالأحرى تريد حلا ، لفعلت، لكن يبدو أن كثيرا منها يفيد جدا من الإنهيار بانتظر ما يقرّره ” الوصي” المقبل، الذي لم تتوضح ملامحه تماما بعد.