كتب خالد أبو شقرا في نداء الوطن: “في الظاهر “ترابض” السلطة وراء نظريات عدم التفريط باحتياطي الذهب، فيما “مدافعها” الباطنية “تقصف” آخر مداميك الإقتصاد، مهددة “دشمة” المعدن الأصفر الصامدة منذ العام 1986 بالإنهيار. لعبة شراء الوقت التي تفننت بها القوى السياسية، تارة باصدار سندات دين بالدولار، وطوراً بالسطو على أموال المودعين، ومرات بالإقتراض.. انتهت. ولم يعد أمام “حديدان” المسؤولين، إلا ميدان الذهب ليستبيحه هدراً وفساداً.
ما يُغني عن استنفاد ما تبقى من احتياطيات عملات أجنبية بشكليها النقدي والذهبي، هو تشكيل حكومة بأجندة إصلاحية وبآفاق تعاقدية مع صندوق النقد الدولي. وإلى أن تتشكل مثل هذه الحكومة، فان الضغوط السياسية على مصرف لبنان تتصاعد لامتصاص آخر الدولارات ومن ثم “الذهبيات” التي تحول بين السلطة والانفجار مرحلياً. ففي مقابل الرقم المجهول المتاح من احتياطي العملات الأجنبية، هناك مصاريف شهرية معلومة تصل إلى مليار دولار. وهي تتوزع على الشكل التالي بين 500 إلى 600 مليون دولار فاتورة الدعم، 8.5 ملايين للطلاب (10 آلاف دولار × 10 آلاف طالب = 100 مليون دولار سنوياً)، و100 مليون دولار أو حتى أكثر لدعم الكهرباء، ولو انها ستدفع على مراحل لتتجاوز 1 مليار دولار على صعيد سنوي، استحقاقات المصارف، مصاريف الدولة، الدفعات الأسبوعية للصرافين فئة (أ) والتي تراجعت من 30 مليون دولار أسبوعياً إلى حدود 7 ملايين، وأخيراً مطالبة المركزي التدخل للمحافظة على سعر صرف بحدود 10 آلاف ليرة.
لبنان الثاني عربياً باحتياطي الذهب
يحتل لبنان المرتبة الثانية عربياً بعد المملكة العربية السعودية والـ20 عالمياً في قيمة احتياطي الذهب. وبحسب أرقام مجلس الذهب العالمي فان لبنان يمتلك 286.5 طناً من الذهب مقسمة على 9,228,457 أونصة، وبقيمة 17.2 مليار دولار. وذلك بالإستناد إلى سعر 1863.8 دولاراً لكل أونصة بحسب أسعار كانون الثاني من العام الحالي. وعليه فان ثروة لبنان من الذهب تساوي 39.8 في المئة من مجمل الأصول بالعملات الأجنبية. ما يضع لبنان في المرتبة 17 عالمياً والأولى عربياً، في نسبة الذهب إلى الإحتياطيات بالنقد الصعب. هذا الواقع “الذهبي” يسيل له لعاب الطبقة الحاكمة. فهي لا ترى بلمعانه الضمانة لبقاء الثقة بلبنان كبلد بالحد الأدنى، ولا حفظ حقوق الأجيال القادمة، ولا إمكانية استخدامه بفعالية بعد الإنتهاء من الدويلات وبسط الدولة سلطتها على مختلف أراضيها ومرافقها… إنما مصدراً لكسب الوقت. وهذا ما يعيد مدير أنظمة الدفع سابقاً في مصرف لبنان رمزي حمادة إلى أواسط ثمانينات القرن الماضي. “ففي العام 1986 وتحت ضغط تراجع العملات الصعبة وارتفاع الدولار، ظهر من ينادي ببيع جزء من احتياطي الذهب ورهن جزء آخر بهدف الحصول على الدولار ولجم المضاربات”. إلا أن الدعوات التي طوّقت آنذاك باصدار قانون يمنع المس بالذهب بضغط من الحاكم إدمون نعيم، تواجه اليوم تهديدات مبطنة من الأمين العام لـ”حزب الله”. فالسيد حسن نصرالله حمّل مسؤولية الحفاظ على سعر الليرة مباشرة إلى مصرف لبنان، متوجهاً إلى الحاكم بالقول “مسؤوليتك أن تمنع ارتفاع سعر الدولار، وتستطيع ذلك”.
فهل حقاً يستطيع رياض سلامة السيطرة على سعر صرف الدولار بغض النظر عن الإنهيار، وإفلاس الدولة، والخلاف السياسي، وسيطرة السلاح غير الشرعي؟ وبأي أدوات؟
تصاعد الضغط لتسييل الذهب
في الإقتصاد “لا يمكن للمركزي تخفيض سعر الصرف إلا بالتدخل بائعاً للدولار”، يقول حمادة. و”هذا ما أصبح اليوم شبه مستحيل بسبب استنفاد احتياطي العملات الأجنبية، وعدم جواز المس بأي شكل من الاشكال بالاحتياطي الإلزامي الذي هو حق من حقوق المودعين”. وبرأيه فان “ما يجري يهدف إلى استمرار الضغط وصولاً حتى بيع الذهب”. وعندها “العوض بسلامتك”، يقولها متأسفاً. فلا يعود هناك من ضمانة، ويخسر لبنان فكرة وجوده وبقائه كدولة. وتصبح مشاريعهم السياسية سواء كانت الفيدرالية أو الكونفيدرالية أو التقسيم أو خلافه سهلة التحقيق”. وبحسب حمادة فان “استمرار الطبقة الحاكمة بالاستدانة وإجبار مصرف لبنان على الدعم من احتياطي الدولار وطبع العملة الوطنية ستكون لها نتائج كارثية. فعدا عن أن الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية قد وصلت إلى 40 ألف مليار ليرة، فان القسم الأكبر من الأموال لا يعود إلى المصارف، وبالتالي إلى مصرف لبنان، بسبب انعدام الثقة. الأمر الذي يفرض على المركزي الإستمرار بالطباعة. وعليه فان طباعة ورق العملة لتلبية السحوبات تساهم بارتفاع سعر صرف الدولار وخلق موجات من التضخم. أما في ما يتعلق بالضغط على تخفيض سعر الصرف من خلال دعم الدولار على 10 آلاف ليرة والتدخل بائعاً كلما زاد الطلب، فلن تنجح هذه الطريقة نتيجة الافتقار إلى العملات الأجنبية والاضطرار إلى المس بحقوق المودعين.
بدارو: النار لم تكْوِنا بعد
ليست المرة الأولى التي تجري فيها محاولات لتسييل الذهب ولن تكون الأخيرة، إلا انها “لن تصبح أمراً واقعاً إلا بعد سنة ونصف أو سنتين على أبعد تقدير، عندما يستنفد كل الاحتياطي الإلزامي المقدر بـ16 مليار دولار”، يقول الإقتصادي روي بدارو. “فبقاء لبنان في محور الممانعة وتحت جناح إيران وسوريا ومن يمثلهما في لبنان، سيمنع عنه المساعدات الدولية والقروض ويفشّل أي نهضة وتعافٍ للإقتصاد. الأمر الذي سيضطر المسؤولين إلى التشريع لأنفسهم القضم من احتياطي الذهب، كما فعلوا ويفعلون باحتياطي العملات الاجنبية”. وبحسب بدارو فان “تراجع الودائع بالعملات الأجنبية في المصارف اللبنانية نتيجة استخدامها في عمليات الشراء أو تحويلها إلى الليرة اللبنانية وقبضها على سعر المنصة المحدد بـ 3900 ليرة، يخفض الإحتياطي الإلزامي ويحوله لإحتياطي عادي بامكان المركزي التصرف به”. ومن بعد استعمال كل الاحتياطيات سواء كانت المحررة أو الإلزامية، “سيلجأون عاجلاً أم أجلاً تحت ضغط الجوع وفقدان كل الخدمات ومقومات الحياة، من كهرباء وماء وانترنت… وغيرها إلى الملاذ الأخير المتمثل بالذهب”، يضيف بدارو. “وسيشرعون استعماله دفعة وراء دفعة حتى يقضوا على كل الاحتياطي”. فالنار التي نقترب منها مسرعين “لم تكوِنا بعد”، من وجهة نظر بدارو. و”عندما تحرقنا نارها، تتغير الأمور. فالمستعدون لدفع ثمن خيار الممانعة يتناقصون يوماً بعد آخر أمام الجوع والفقر الذي لا يميز بين بيئة وأخرى. ومفعول أموال “حزب الله” بالدولار التي يتباهى بها قصيرة الأجل ولن تدوم إلى الأبد”.
تعطيل التوافق على الحل السياسي الشامل الذي يتحدث عنه بدارو يتأكد يوماً بعد آخر. ولعل أوضح تجلياته تمثلت بتعطيل الحكومة إلى أجل غير مسمى، كما اتضح بعد اجتماع الرئيس المكلف تشكيل الحكومة مع رئيس الجمهورية. وهذا ما يدفع للإعتقاد بحسب الخبير الاقتصادي جان طويلة إلى “استمرار السلطة السياسية بتجنب الكارثة الإجتماعية والإبقاء على سياسة الدعم العشوائية التي قضت على قسم كبير من الاحتياطي، وتتجه مع سلفة الكهرباء إلى المس بالاحتياطي الإلزامي بشكل مباشر”. والمشكلة الأساسية برأيه تتمثل في عدم الاتفاق على السياسة التي يمكن أن نتبعها اليوم، والتي قد تجنبنا استنزاف الإحتياطي والمس بالذهب. وهنا تفاضل السلطة الحاكمة بين خيارين: إما ترشيد الدعم وخسارتها لمنافعها المتمثلة بالإبقاء على الزبائنية السياسية للمقربين منها سواء كانوا تجاراً أم مهربين أم محتكرين ومستفيدين؛ وإما إصلاح قادرة عليه، لكنه يوصلها إلى النتيجة نفسها. فستفضل حكماً الإبقاء على الدعم وشراء الوقت وتجنب المشكلة حتى ولو وصل الأمر إلى استعمال الذهب.
اللامسؤولية وتقديم المنفعة الشخصية، ولو لوقت قصير، يتقدمان في ظل هذه الطبقة الحاكمة على مصلحة بلد يتجه سريعاً للإنهيار الكامل. وعلى هذا الأساس لم نعد نستبعد شيئاً. فعلى قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، سنصحو في يوم قريب على فقدان لبنان لآخر معاقل الثقة النقدية المتمثلة بالاحتياطيات الذهبية.