ألقى العلامة السيد علي فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين، في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بأن نغتنم فرصة هذا الشهر؛ شهر ذي القعدة. ويتميز هذا الشهر بأنه من الأشهر الحرم، وهي الأشهر التي يحرم فيها القتال، فلا يجوز أن يبدأ المسلم فيها بقتال، وإذا كان قد بدأ، فلا بد من أن يتوقف إلا دفاعا عن النفس، وهي الأشهر التي يتضاعف فيها الثواب لمن يعمل الحسنات، ويتضاعف العقاب لمن يعمل السيئات. وقد سمي بذي القعدة، لأنه كان يقعد فيه عن القتال وعن الظلم.
وتابع: “وقد وردت فيه العديد من المناسبات التي لا بد من إحيائها، ففي أول هذا الشهر ولادة السيدة فاطمة بنت الإمام الكاظم، والتي لقبت بالعديد من الألقاب، منها الطاهرة والتقية، ولكن لقبها الأبرز، والذي تذكر به، هو المعصومة. وجاء أن الإمام الرضا لقبها به، وقد كان لها مكانتها العلمية، فكانت مقصدا لطالبي العلم. وورد أنها كانت تجيب على الأسئلة والاستفسارات خلال غياب أبيها الإمام الكاظم، وقد توفيت وهي في الطريق إلى زيارة أخيها الإمام الرضا في خراسان، ودفنت حيث هي في قم المقدسة. وفي الحادي عشر من هذا الشهر، كانت ولادة الإمام الرضا. وفي التاسع والعشرين منه، ذكرت وفاة الإمام محمد بن علي الجواد.
واضاف فضل الله: “فلنغتنم هذا الشهر، ليكون شهر سلام وأمان وعبادة وتزود من معين هؤلاء الأطهار الأصفياء، لنأخذ من طهارتهم ومن صفائهم صفاء، ومن مسؤوليتهم مسؤولية، وبذلك نكون أقدر على مواجهة التحديات”.
“والبداية من لبنان، الذي كان في نهاية الأسبوع الفائت على موعد مع جولة جديدة من الأحداث الدامية التي دارت رحاها في الجبل، وذكرت اللبنانيين بشيء من الأيام السوداء التي عاشوها خلال الحرب الأليمة. وقد تركت هذه الأحداث تداعياتها داخل مجلس الوزراء، وعلى الساحة السياسية العامة، وهزت الاستقرار الداخلي على أبواب هذا الصيف، وزادت من قلق اللبنانيين وخوفهم على واقعهم ومستقبلهم، في ظل الأزمات الخانقة التي لا تزال تلاحقهم على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والصحي والبيئي”.
واردف: “لقد كشفت هذه الأحداث مدى هشاشة الواقع الداخلي، ومدى التوتر الذي يحكم علاقة الجهات السياسية بعضها بالبعض الآخر، والتي يفترض أنها تدير البلد، وعليها يقع عبء إخراجه من كل الأزمات التي يعانيها، بين من يخاف من الإقصاء وكيد الآخرين له، ومن يشعر بالغبن، وبأن هناك انتقاصا من حقوقه، وأنه لم يأخذ ما يستحق”.
وقال فضل الله: “ومن الطبيعي أن عدم استدراك هذا الواقع وإعادة الثقة بين القوى السياسية قد يؤدي إلى أن تتكرر هذه الأحداث عند أي منعطف سياسي، وأي استحقاق محلي، أو حتى عند أي زيارة لهذا المسؤول أو ذاك، وأن تودي بالكثير من الإنجازات التي تحققت على الصعيد الأمني وإعادة بناء الدولة”.
“ونحن أمام ما جرى، نعيد التأكيد على ثوابت لا بد من أن تحكم كل الواقع السياسي في هذا البلد، منعا لأي فتنة، وهو أن لا مكان لمنطق الغلبة فيه، فهو محكوم بالتوافق، ومنطق الغلبة هو مشروع فتنة، إن لم يكن عاجلا فآجلا، وأن لبنان بلد مفتوح على بعضه البعض، لأن تكريس وجود مناطق مقفلة سيزيد من تباعد اللبنانيين، ويعزز الهواجس والمخاوف فيما بينهم ويكرسها، وأن المصلحة الوطنية تقتضي اعتماد الخطاب العقلاني المتوازن، والخروج من الخطاب الانفعالي والاستفزازي، وكل ما من شأنه تجييش الشارع وشد العصب الطائفي، فقد أثبتت وقائع الماضي خطورة لعبة إثارة الغرائز وشد العصب، فهي إن انطلقت لن تكون دائما بيد مطلقيها، بل غالبا ما تكون على حسابهم”.
ورأى “إن المشاكل التي تحدث بين القوى السياسية والهواجس المتبادلة، لا بد من أن تعالج داخل المؤسسات، لا أن تنزل إلى الشارع الذي هو أحوج ما يكون إلى الهدوء وإلى تعزيز علاقته ببعضه البعض، وأن يعمل على معالجة أسباب المشكلة لا أعراضها، بدلا من أن تنتهي إلى تسويات آنية سرعان ما تعود إلى الاشتعال ما دامت أسبابها لا تزال موجودة. وهذا لا يعني عدم تحمل المسؤولية عن النتائج، بل لا بد من أن تأخذ العدالة مجراها في ملاحقة المتسببين بما حصل من دون أي تمييز”.
وتابع: “إن من المحزن أن يحصل كل ما حصل من قوى سياسية معنية بإدارة شؤون هذا البلد، في الوقت الذي نسمع التقارير الدولية التي تتحدث عن تراجع التصنيف الائتماني أو ما تحدثت به بعثة صندوق النقد الدولي عن أن البلد يحتاج إلى القيام بعملية تعديل مالي وإصلاحات هيكلية كبيرة، أو في ظل تهديدات العدو المستمرة للبنان والمنطقة، وفي عدوانه المتكرر، ومن داخل لبنان، على سوريا، كما في الغارات الأخيرة التي سقط فيها عدد من المدنيين، وفي تدريباته ومناوراته المتواصلة التي تحاكي عدوانا على لبنان، وفي المواقف الأخيرة لرئيس وزراء العدو الذي قال: “إسرائيل دولة صغيرة الحجم. لذلك يتعين توسعة أرضنا عند الحاجة”، إضافة إلى التطورات الناجمة عن الحصار الأميركي الظالم على إيران وسوريا والسعي المستمر لإثارة الفتن في المنطقة.
وختم فضل الله: “إن هذه الأطماع وهذه التهديدات تبعث على القلق الشديد، ونحن نريد لها أن تدفعنا في لبنان للتفرغ لتحصين هذا البلد، وهذا لا يتم إلا بتعزيز وحدته، حتى لا نكون مطمعا للعدو الذي يتحفز لاستغلال أي ثغرة داخلية للعبث بوطننا وإضعاف قوته وتحقيق أهدافه في النيل من ثرواته النفطية وأرضه، وهو ما يظهر في محاولاته فرض شروطه، وخصوصا إبعاد الأمم المتحدة عن أداء دور أساسي في رعاية المفاوضات وإصراره على ترسيم عدواني للحدود يستجيب لأطماعه التي لا حدود لها”.