السبت , 28 ديسمبر 2024

الراعي في رسالة الفصح: لا تستطيع الجماعة السياسية عندنا مواصلة تقاسم مقدرات البلاد والمناصب وتعطيل كل شيء عند خلافاتهم تحت ذريعة قاعدة التوافق

وجه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي صباح اليوم رسالة الفصح بعنوان “دحرجة الحجر” الى اللبنانيين عموما والمسيحيين خصوصا، في حضور الرؤساء العامين والرئيسات العامات للرهبانية اللبنانية المارونية، وجاء فيها:

“عندما جاءت النسوة: مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسلومي، عند طلوع الشمس في اليوم الثالث بعد موت يسوع، وهو الأحد، أي الأول من الأسبوع، حاملات الطيوب لتطييب جثمان يسوع، كان همهن أن أحدا يدحرج لهن الحجر عن باب القبر. ولم يكن بإمكانهن تطييب جثمان يسوع ساعة دفنه، يوم الجمعة، بسبب سقوط المغيب وبداية السبت وفيه عيد الفصح اليهودي ووجوب الإنقطاع عن أي عمل. لذا أتين متسائلات: “من يدحرج لنا الحجر عن القبر؟ وإذ تطلعن رأين أن الحجر قد دحرج، وكان كبيرا جدا” (مر 16: 3-4). ولا عجب! فالحي لا يسكن في قبر بين الأموات. فعندما دخلن القبر متحيرات، وقف بهن رجلان بثياب براقة، فارتعبن لشدة الخوف. فقال لهن: “لماذا تطلبن الحي بين الأموات؟ إنه ليس هنا! لقد قام!” (لو 24:3-6).

أجل! المسيح قام! حقا قام! هذا هو أساس إيماننا ورجائنا. هذا هو عيدنا، عيد قيامة قلوبنا من موت الخطيئة والحزن واليأس، ومن موت الحقد والبغض والعداوة. إنه عيد ثمار الفداء والحياة الجديدة. فيسعدني أن أهنئكم بعيد قيامة المسيح وقيامة قلوبنا، أيها الحاضرون والسامعون والمشاهدون، عبر وسائل التواصل الإجتماعي وتقنياتها الحديثة.

لكم التهاني القلبية مع أطيب التمنيات، يا إخواني السادة المطارنة، ولجميع أبناء أبرشياتكم وبناتها في لبنان والنطاق البطريركي وبلدان الإنتشار؛ ولكم، يا قدس الرؤساء العامين والرئيسات العامات الذين تحيون هذا اللقاء والصلاة ككل سنة، ويا سائر الرهبان والراهبات في الأديار والمؤسسات والرسالات؛ ولكم أيها الحاملون جراح المسيح في أجسادكم ونفوسكم وأرواحكم، أنتم أيها المرضى والمعوقون، وأيها الجائعون والفقراء والمحرومون من حقوقهم الأساسية والعيش الكريم.

ولكم بشرى القيامة وثمارها المرجوة، يا ضحايا الحروب الدائرة في سوريا والعراق وفلسطين واليمن وليبيا وسواها، المطرودون من بيوتكم وأراضيكم والمظلومون والمشردون على طرقات العالم. فأنتم الضحايا البريئة لحروب الكبار الذين يفرضونها عليكم من أجل مكاسبهم الإقتصادية والإستراتيجية والسياسية، ومن أجل التجارة بأسلحتهم، جاعلين من مدنكم الزاهرة ومكتسباتكم الحضارية وأوطانكم المحبوبة وشعبكم الأبي حقول تجارب لقدرات أسلحتهم الهدامة والمتطورة، تحت شعارات كاذبة واتهامات افترائية، ووعود براقة تتبخر في سراب الحروب المتجددة فصولا وأنواعا وأمكنة، مخالفين القوانين الدولية، ومنتهكين شريعة الله الناهية عن القتل وعن استباحة حياة الإنسان والتعدي عليها في الجسد والروح والحقوق الأساسية، وخانقين صوت الضمير، وهو صوت الله في داخلهم، وجاعلين قلوبهم من حجر.

ولكم عزاء المسيح القائم من الموت، أيها الإخوة الأقباط، ضحايا الاعتداءين الوحشيين والجبانين عليكم وأنتم تصلون في أحد الشعانين بحضرة الله، في كنيسة مار جرجس بطنطا، وفي الكنيسة المرقسية بالإسكندرية. ونشكر الله معكم على نجاة رأس كنيستكم وأبيها قداسة البابا تواضروس. إننا روحيا بقربكم يا مسيحيي مصر وبقرب أهالي شهداء الإيمان الذين سقطوا من بينكم، متضامنين في ألمكم وصمودكم، ومصلين، كي يقبل الله قرابينهم مع قربان ذبيحة ابنه الخلاصية، التي أحييناها بالأمس، فتكون لفداء مصر العزيزة وشعبها، ولارتداد الأشرار ومستعمليهم الكبار الأجرم منهم. وإننا اجتماعيا ووطنيا ندين ونرفض هذا الاضطهاد السافر الشبيه بعملية صيد، والمتكرر بشكل مبرمج، لإخواننا المسيحيين في مصر، ونطالب المسلمين والدول الإسلامية اتخاذ مواقف جامعة ومبادرات فعلية لردع هذا الاضطهاد، وحفظ صورة الإسلام الإيجابية. فإن المسيحيين موجودون في مصر والبلدان العربية منذ ألفي سنة، وهم فيها مواطنون مخلصون لأوطانهم وشركائهم فيها، وقد أرسوا أسس حضاراتها قبل مجيء الإسلام بستماية سنة. وإننا نطالب سياسيا الأسرة الدولية بكف يد الدول التي تغطي الحركات التكفيرية والمنظمات الإرهابية وتمدها بالمال والسلاح، وتوظِف الإرهاب لمصالحها الرخيصة والمجرمة. وليعلم الجميع أن المسيحيين ليسوا مكسر عصا لأحد، وأنهم خميرة حضارة وقيم في مجتمعاتهم، وضرورة لها لا غنى عنها من أجل ترقيها على جميع المستويات.

إننا جميعا ندين كل أنواع الحروب والاضطهادات والإعتداءات. فلا من مبرر لها، ولا من منطق يؤيدها. بل إنها وصمة عار على جبين الأسرة الدولية، من دول كبرى ودول تابعة لها ولسياساتها، يطبعها انعدامالإرادة الحسنة عندها لوضع حد للحروب والاعتداءات الجائرة والهدامة، ولإيجاد حلول سياسية وديبلوماسية للنزاعات، ولإرساء الأسس الكفيلة بإحلال سلام عادل وشامل ودائم في منطقتنا المشرقية. ولعلهم يجهلون أن على أرضنا أتم المسيح -الإله فداء الجنس البشري وأضفى على الحياة البشرية قدسيتها وكرامتها، وأن منها أعلن المسيح للعالم إنجيل السلام. والعار يلحق حكام الدول، أصحاب النفوذ المالي والعسكري، الذين جعلوا من أرضنا المشرقية أرض حرب وقتل وتدمير، ومرتعا للمنظمات الإرهابية والحركات الأصولية. لقد أشعلوا نارا يظنون أنها تحرق في مكانها، لكنها امتدت إليهم وإلى سواهم، ومن المؤسف أن ضحاياها من الأبرياء، فيما هم يتباكون بدموع التماسيح على نتائج ما فعلوا، من دون إزالة أسبابها.

الكنيسة تتساءل معكم، يا كل الذين تعيشون ظلمة قبور الظلم والإستبداد، قبور الإنكسار وقتل الآمال، قبور الحروب المفروضة والنزاعات، قبور الفقر والإفقار، قبور قلوب الحجر واللانسانية والإهمال والإزدراء والإستكبار، أجل معكم تتساءل: “من يدحرج لنا الحجر؟”
المسيح القائم من الموت، والذي دحرج الحجر الكبير عن قبره بقيامته، هو يدحرج كل حجر في حياتكم الخاصة والعامة. بقيامته لم يرجع إلى حياة إنسانية اعتيادية في هذا العالم كما حصل لقيامة فتى نائين (لو7: 11-17)، وابنة يائيروس (مر 5: 22-24؛ 35-43)، ولعازر (يو11: 1-44)، الذين أقامهم يسوع من الموت، وبعد أن عاودوا حياتهم السابقة، عادوا فماتوا نهائيا. أما المسيح فقام لحياة جديدة في رحاب الله، دشن بها بعدا جديدا للوجود الإنساني يهم كل البشر ويفتح أمامهم مستقبلا جديدا. قام ليقيم كل إنسان من ظلمته وليحيا في كيان كل إنسان. بهذا المعنى كتب بولس الرسول: “لو لم يقم المسيح، لكنتم بعد أمواتا في خطاياكم… ولكنه قام من بين الأموات وهو بكر الراقدين” (1كور15: 17 و20).

أقول لكم، أيها الأحباء الحاضرون والمشاهدون والسامعون، أن المسيح الحي، في قلوبكم وفي إيمانكم هو القوة التي تدحرج الحجر مهما كان كبيرا. فللرب طريقته ووسائله وزمانه. إن هؤلاء الذين يعتدون بنفوسهم أنهم “عظماء الأرض”، بسبب السلطة وقدراتها التي بين أيديهم، حتى ولو استطاعوا أن يهدموا بيوتكم وجنى عمركم وإنجازات حضارتكم، فإنهم لن يتمكنوا من هدم إيمانكم وحبكم لوطنكم والرجاء الذي في قلوبكم. ذلك أن ثمرة موت المسيح وقيامته هي ثمرة اتحادنا نحن المتناهين بغير المتناهي، اتحاد الإنسان الضعيف بالله القوي بحبه صانع المعجزات، وبرحمته الأقوى من الثأر. إن جمال محبته ورحمته هو الذي يخلص العالم.

نداء إلى الجماعة السياسية
إن رسالتنا الفصحية هذه موجهة أيضا إلى الجماعة السياسية عندنا في لبنان، مهنئين بالعيد، وراجين أن يعبروا مع “فصح” المسيح إلى نمط حياة جديدة، في حياتهم الخاصة وحياتهم العامة، لكي يمكنوا المواطن اللبناني من “العبور” إلى حالة وطنية واقتصادية واجتماعية ومعيشية أفضل. لكن باب عبورهم هو “الخروج” من أسر ذواتهم وحساباتهم الصغيرة ومصالحهم الضيقة، المؤمنة على حساب الذات اللبنانية والصالح العام للدولة ومؤسساتها وشعبها.
لا تستطيع الجماعة السياسية عندنا مواصلة تقاسم مقدرات البلاد والمناصب والمال العام في ما بين مكوِنات هذه الجماعة، وفقا لقدرات النافذين فيها، وتعطيل كل شيء عند خلافاتهم التقاسمية، تحت ذريعة قاعدة التوافق، غير آبهين بالأضرار الجسيمة التي تلحق بالمؤسسات العامة وبالشعب.
عيد الفصح، الذي يعني العبور، يدعوهم للعبور إلى حقيقة مفهوم الميثاق الوطني، وأبعاد العيش المشترك، وروح الدستور ونصه؛ وإلى حماية هذه الأركان الوطنية الثلاثة التي تميز لبنان.

ويدعوهم للعبور إلى ممارسة العمل السياسي واستعمال السلطة الشرعية، بالشكل الفني الجميل، القائم على تنظيم الحياة العامة في مقتضياتها اليومية ومتفرعاتها؛ وتنظيم الدولة في نشاطها الداخلي، إدارة وأجهزة وتخطيطا وتحقيق مشاريع تنمي ميادين الاقتصاد والاجتماع والتشريع والثقافة، وفي نشاطها الخارجي بعلاقاتها البناءة مع الدول وإبرام الاتفاقيات العمرانية معها؛ وتعزيز محبة الوطن، بقيمه وتراثه وحضارته ودوره في الأسرتين العربية والدولية، في نفوس أبنائه وشبابه، وتحقيق آمالهم وتطلعاتهم وإزالة هواجسهم، ودرء ما يتهددهم من أخطار اليوم وغدا.

هذه هي تهانينا وتمنياتنا للجميع، مقرونة بصلواتنا إلى المسيح المنتصر على الخطيئة والشر والموت، هاتفين:المسيح قام! حقا قام!”.

وكانت قد ألقت الأم جوديت هارون كلمة باسم الرؤساء العامين والرئيسات العامات قالت فيها: “جئنا نؤكد لغبطتكم ان “الشراكة والمحبة” هما القاعدة الذهبية لعيشنا الديري الرهباني الأخوي، وهما العنوان الساطع لرسالاتنا الرعوية والروحية والتربوية والاجتماعية والاستشفائية والاعلامية في قلب هذا الوطن الحبيب وعلى مساحة دنيا الانتشار اللبناني”.

أضافت: “جئنا لنؤكد ايضا لغبطتكم أن خدمتنا هذه التي على مثالكم لا تعرف حدودا، فقد أضفت على محبتنا نفحة قيامية تطيب قلب إلهنا وتنشر عطر الرجاء في النفوس الواهنة”.

وختمت: “نسأل رب القيامة والحياة أن يضيء بأنوار فجر أحد القيامة خطواتكم المسرعة دائما، لاعلان البشرى السارة لجميع الأمم والشعوب. وعند حيرة النسوة أمام القبر الفارغ نردد “لماذا تبحثن عن الحي بين الأموات ؟ أنه ليس ههنا بل قام”.

بعد ذلك، استقبل الراعي في صالون الصرح المهنئين بالعيد من مطارنة أبرشيات وكهنة ووفود وشخصيات.

عن Editor1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *