ألقى العلامة السيد علي فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين، في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به رسول الله في شهر رمضان عندما قال: “فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه”، وبين ثواب قراءته: “من قرأ آية من القرآن كمن قرأ القرآن كله في بقية الشهر”. وقد جعل هذا الشهر ربيع القرآن عندما قال: “لكل شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان”.
وتابع: “وبذلك، لن تكتمل معاني هذا الشهر، ولن تتحقق أهدافه، ولن نبلغ ما يحظى به الصائمون من أجر وثواب جزيل، إلا بقراءة القرآن، ونحن مدعوون في هذا الشهر إلى تلاوته، ولكن بالصورة التي أشار إليها الإمام الصادق عندما فسر الآية: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته}، فقال: “الذين يرتلون آياته، ويتفهمون معانيه، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخشون عذابه، ويتمثلون قصصه، ويعتبرون أمثاله، ويأتون أوامره، ويجتنبون نواهيه، ما هو والله بحفظ آياته، وسرد حروفه، وتلاوة سوره، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنما هو تدبر آياته يقول الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته}”، “ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر”، ومتى فعلنا ذلك، فسنحظى بنوره، بهداه، بالاطمئنان الذي أودع فيه، بصراطه المستقيم، وسيكون لنا بشرى ورحمة، وبذلك سنكون أقدر على مواجهة التحديات”.
واضاف فضل الله: “والبداية من لبنان، الذي تتواصل فيه جلسات مناقشة بنود الموازنة، في ظل حالة الإرباك والضبابية في تحديد القطاعات والمجالات التي تقتضي أن تمسها الضرائب، أو التخفيضات الضرورية لسد العجز، وسعي القوى السياسية إلى أن لا يؤدي إقرار أية إجراءات مالية إلى المس بمصالحها أو بموقعها الشعبي أو الطائفي. وعبر عن ذلك استعادة النقاش حول البنود المفترض أنه جرى التوافق عليها، وعروض المساومات بين هذه الوزارة أو تلك لمعالجة البنود المختلف عليها، ما يجعلنا نستطيع القول إن اللبنانيين لن يكونوا أمام موازنة بمستوى آمالهم المعقودة، بقدر ما سيكونون أمام موازنة جمعت أرقامها من هنا وهناك، بما يتيح خفض العجز الذي يراد له، وللأسف، لا معالجة اقتصاد الدولة أو ماليتها، بل إقناع الجهات الدولية المانحة بأن ترسل قروضها إلى البلد قبل الوصول إلى الانهيار الكبير”.
واردف: “إننا لا نزال نرى أن المشكلة في هذا البلد تعود إلى أمرين؛ الأول عدم وجود رؤية اقتصادية لمعالجة الأزمة المالية، والآخر هو التشكيك في مصداقية الدولة بوضعها الحالي في الالتزام بما أعلنته من حرب على الفساد. من هنا، فإننا نرى أن الأمور لن تستقيم في هذا البلد إذا كان الحديث هو حديث تقشف، من دون أن تعمل الدولة على استعادة ثقة المواطنين بها، وإشعارهم بتصميمها على إنتاج مشروع إصلاحي اقتصادي حقيقي وتطهير الإدارات والمؤسسات الرسمية من الفاسدين والمفسدين، وتحميل الذين استفادوا أموالا طائلة قسطا من المسؤولية في معالجة العجز، وعند ذلك يمكن للمواطنين أن يتحملوا ويضحوا”.
وإلى مسألة ترسيم الحدود البحرية التي نسمع فيها حديثا عن تراجع كيان العدو، وعن إيجابيات يحملها الموفدون الأميركيون في هذه الأيام. ونحن في هذا المجال، ندعو إلى الاستمرار في الموقف اللبناني الموحد من هذه القضية، وعدم التنازل عن أي شبر من الأرض أو الموافقة على أي اتفاق يمس الحقوق اللبنانية، مما بذلت لأجله دماء وقدمت فيه تضحيات، فلبنان ليس ضعيفا، بل هو قوي بوحدته وقوة جيشه ومقاومته.
وتابع: “في هذه الأيام، نستعيد أيضا ذكرى النكبة، وإنشاء الكيان الصهيوني، وطرد مئات الآلاف من الشعب الفلسطيني. إننا نرى أن هذه النكبة ليست مجرد ذكرى، لأنها تجري في كل المفاصل السياسية التي نعيشها كشعوب وكأمة، وفي كل المآسي المستمرة التي تشير إلى أن الكيان الصهيوني لم ينشأ ليستولي على أرض فلسطين فقط، بل ليكون عنصر قلق وهيمنة في قلب المنطقة العربية والإسلامية.
وقال فضل الله: “إننا، ومن خلال كل ما تشهده المنطقة من فتن وحروب في هذه الأيام، نرى أن هناك سعيا دوليا لتكريس هذه النكبة وإعطائها المشروعية القانونية والدولية، من خلال ما يعرف بصفقة القرن، للقضاء على ما تبقى من حلم الشعب الفلسطيني بالعودة، ولكننا مع كل هذه الضغوط والمؤامرات، لا نزال نتطلع إلى الشعب الفلسطيني الذي يمثل في جهاده وصبره وصموده عنصر تحد حقيقيا لهذا الاحتلال، ونريد لهذا الشعب أن يعزز وحدته، وأن تقف الشعوب العربية والإسلامية إلى جانبه، لمحو صورة النكبة، ولوضع حد لأي نكبات أخرى في المستقبل”.
“وفي مجال آخر، نشهد في هذه الأيام تصعيدا إعلاميا وسياسيا، يرافقه استعراض أميركي للقوة لزيادة الضغط على إيران، وكنا قد نبهنا ولا نزال ننبه إلى أن استمرار هذا الوضع ستكون له تداعيات على مستوى المنطقة واستقرارها، وسيؤدي إلى خلق مناخات من التوتر تصيب الأمن في العالم كله، وتجعل العدو الصهيوني يدخل على الخط، وهو ما شهدناه في الأحداث الأخيرة”.
وأخيرا، وفي هذا اليوم بالذات؛ يوم ذكرى الاتفاق المشؤوم، اتفاق السابع عشر من أيار، نستذكر العلامة المرجع فضل الله؛ الصوت المدوي الرافض للعدو واحتلاله وشروطه المذلة؛ الصوت الذي انطلق من بئر العبد، ومن مسجد الإمام الرضا، رافضا لاتفاق الذل والهزيمة، والذي شكل الشرارة التي أدت إلى إلغاء هذا الاتفاق ومفاعيله ومنع العدو الصهيوني من الاستثمار في احتلاله. من هذه الذكرى تعيد التأكيد للشعوب بأنها قادرة على الوقوف في وجه أية مؤامرات تستهدفها في أرضها أو ثرواتها، ولو كانت مدعومة بأساطيل العالم، إذا امتلكت الوعي الصحيح، والإيمان العميق، والحكمة، والإرادة الصلبة، والاستعداد للتضحية.