ألقى العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
“عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بأن لا يفوتنا الدعاء مع بداية العام الجديد، ففي ليلة كل سنة جديدة، كان الرسول يتوجه إلى الله قائلا:”اللهم ما عملت في هذه السنة من عمل، نهيتني عنه ولم ترضه، ونسيته ولم تنسه.. اللهم فإني أستغفرك منه فاغفر لي، وما عملت من عمل يقربني إليك فاقبله مني، ولا تقطع رجائي منك يا كريم”. هنا، يذكر أن الشيطان يقول بعد هذا الدعاء: “يا ويلي، ما تعبته في سنة هدمه بهذا الدعاء”. ومع بداية السنة، كان رسول الله يتوجه إلى الله قائلا، بعد أن يصلي ركعتين: “وهذه سنة جديدة أسألك فيها العصمة من الشيطان وأوليائه، والعون على هذه النفس الأمارة بالسوء، والانشغال بما يقربني إليك، يا ذا الجلال والإكرام. بهذه الصورة، أرادنا رسول الله أن ننهي سنة مضت من عمرنا، وصرنا معها أقرب إلى موقعنا بين يدي ربنا، واطمأنينا إلى أن أعمالنا قبلت منا، ولم تبق علينا تبعاتها، لنبدأ سنة جديدة نكون فيها أحرص على بلوغ طاعة الله ومرضاته، وتجنب معاصيه، لتكون أفضل من سابقتها، فمن تساوت سنتاه فهو مغبون. وبذلك، نكتب عند الله من الواعين الذين يعون معنى أهمية العمر ومسؤوليته، ونكون أقدر على مواجهة التحديات”.
وقال: “البداية من القدس، التي لا تزال ترزح تحت وطأة قرار الرئيس الأميركي الاعتراف بها كعاصمة للكيان الصهيوني، والذي جاء ليعطي ضوءا أخضر لهذا الكيان، لتصعيد إجراءاته في هذا الاتجاه، وهو لذلك يستعد لجولة تهويد جديدة، عبر إصدار تشريعات وقوانين جديدة تهدف إلى سلخ الفلسطينيين المقدسيين عن القدس، وتشديد إجراءات الضغط والحصار عليهم، لدفعهم إلى الخروج منها، والتهيئة لـ”ترانسفير” جديد. وفي هذا الوقت، يبرز إلى العلن الحديث عن الصفقة الأميركية التي عرضت على السلطة الفلسطينيَّة لإعطاء الفلسطينيين بلدة أبو ديس بدلا من القدس، ما يوحي بما كنا أشرنا إليه بأن قرار الولايات المتحدة اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، لم يأت اعتباطا، بل يراد لهذه الخطوة أن تكون بمثابة كرة الثلج التي تنطلق بعدها خطوات أخرى بشكل تدريجي وتصاعدي، لفرض أمر واقع جديد على الأرض”.
وأضاف: “على الرغم من أهميَّة القرار الَّذي اتخذته الجمعية العموميَّة للأمم المتحدة بإبطال قرار الرئيس الأميركي، وهو ما شكل صفعة له. فإن الإدارة الأميركية التي تعاملت مع المنظمة الدولية باستهتار واحتقار، عندما استخدمت الفيتو بكل صلافة ضد كل الأعضاء الآخرين في مجلس الأمن، ها هي تعاقب المنظمة على تحديها للقرار الأميركي بخفض مساهمتها المالية في ميزانية الأمم المتحدة. ومع هذه المواقف المعادية للحق الفلسطيني، نتساءل: ماذا أعددنا كعرب ومسلمين وكقوى تحرر لمواجهة كل ما يجري؟ وللأسف، لم نشهد أي خطة أو موقف على مستوى خطورة ما يجري، بل ربما نشهد محاولات لتمييع الرفض العربي، وثمة من يضغط على الفلسطينيين ليوقف احتجاجاتهم ونضالهم”.
ورأى أن “المطلوب أن يثبت العالم العربي والإسلامي أنه على مستوى التحدي، وأن يواصل رفضه، ويستمر في تحركاته الإقليمية والدولية لإبقاء جذوة الرفض لهذا القرار.. ولكننا نبقى نشدد على أن الثقل الحقيقي في عملية الرفض يتمثل في الشعب الفلسطيني نفسه.. هذا الشعب الذي لم يكل ولم يمل منذ احتلت أرضه، ولا يزال يتحرك في حركة انتفاضة تتصاعد حينا وتخفت أحيانا، ولكنها لا تتوقف”.
وقال: “إن هذا الشعب بحاجة إلى كل الطاقات العربية والإسلامية ليشعر بأن له سندا كبيرا، يعينه على الصمود، بتقديم المساعدات التي توفر أسباب العيش الكريم، ورفد الانتفاضة بكل ألوان الدعم المالي والسياسي، والحضور في الساحات، ورفع صوت الاحتجاجات.. واستخدام الضغوط على الدول المفرطة بحقوق الشعب وحرية القدس”.
وتابع: “أما في اليمن، فلا يزال هذا البلد يعاني آثار حرب جعلت شعبا بكامله تحت وطأة الحصار، وجعلت الملايين فريسة لمرض الكوليرا وغيره من الأمراض، إضافة إلى الغارات التي تقتل العشرات من المدنيين يوميا، وتمر معها الكلمات الاعتراضية والتصريحات المعترضة بخجل مرور الكرام”.
وتساءل “أما آن الأوان لطاحونة الموت هذه أن تتوقف في اليمن؟ ألم يحن الوقت بعد مرور أكثر من ألف يوم على عمليات القتل المنظّم أن يتحرك هذا العالم الصامت لوقف الحرب العبثية التي لن تكون نهايتها إلا من خلال التسوية أولا وأخيرا؟”
وأضاف: “أما في البحرين الذي تستمر أزمته السياسية من دون أي حل يعيد لهذا البلد توازنه ودوره.. فإننا في هذا المجال، نقدر المبادرة الوطنية الشاملة لمعالجة الأزمة الراهنة، والتي أطلقها العلامة السيد عبد الله الغريفي، وطالب فيها النظام بتوفير المناخات الملائمة لإعادة إنتاج الثقة بين النظام والشعب”.
ورأى في “هذه المبادرة فرصة كبيرة لطي الصفحة المؤلمة الَّتي تعيشها البحرين منذ سنوات. وهنا، ندعو الحكومة البحرينية إلى الاستجابة لهذه المبادرة، التي نعرف أنَّها لم تنطلق إلا بداعي الحرص على البحرين دولة وشعبا، ليعود هذا البلد إلى عهده في الاستقرار والوئام والسلام”.
وتابع: “نعود إلى لبنان الغارق في تفاصيل الخلاف الجاري بين أهل الحكم.. هذا الخلاف الذي كنا ولا نزال نأمل أن يعالج ضمن الأطر الدستورية، وبما يحفظ التوازن المطلوب داخل هذا البلد بين الطوائف والمذاهب، فلا تشعر أي جهة أو مكون بأن هناك من يريد تجاوزها، وخصوصا في ظل استمرار الهواجس المتبادلة بين الأفرقاء، والتي نأمل أن تغيب”.
وقال: “إن لنا ملء الثقة بحكمة أركان الدولة بتجاوز هذه الانتكاسة في مسار الحكم، والعودة إلى أجواء الوفاق التي حكمت المرحلة السابقة، التي استطاع الفرقاء اللبنانيون من خلالها أن يواجهوا مأزق تلك المرحلة ويواجهوا التحديات الكبيرة التي تنتظرهم، وما أكثر هذه التحديات في الداخل والخارج”!
أضاف: “إن اللبنانيين، وعلى أبواب السنة القادمة، ينتظرون من القيادات السياسية أن تبدأ بفتح صفحة جديدة مع المواطنين، وإيلاء مشكلاتهم المعيشية والأوضاع الاقتصادية والمالية للبلد اهتماما غير مسبوق، يستعيد بوجوده اللبنانيون ثقتهم بالدولة؛ دولة القانون.. دولة التخلص من الفساد والهدر، دولة المؤسسات.. وأن تطوى الصفحة السابقة التي ملئت بالصفقات والمحاصصات والمزايدات، وعطلت إنجاز الكثير من القضايا الضرورية، فهل يعقل أن يبقى ملف الكهرباء من دون معالجة لمدى عقدين من الزمن! وهكذا مسألة النفايات التي لا تزال تؤرق اللبنانيين وتفاقم أوضاعهم الصحية”؟
وختم: “إننا نتطلع إلى أن يكون العام الجديد القادم مختلفا عن العام الذي سبقه، بأن يكون محطة انطلاق حقيقية لبناء خطة متكاملة لمعالجة قضايا المواطنين العالقة، والنهوض بالاقتصاد اللبناني، والاهتمام بالقطاعات الإنتاجيَّة بعد أن ضعفت الإيرادات الخارجية، وبالمشاريع الإنمائية المتوازنة التي تشمل المناطق اللبنانية كافة، ولا سيما الأطراف التي تعيش في ظل معاناة أكثر قسوة من بقية المناطق”.