ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عودة، خدمة قداس الميلاد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في الاشرفية.
وبعد الإنجيل المقدس ألقى عظة قال فيها: “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة. لما حان ملء الزمان أي عندما أصبحت الطبيعة البشرية بحاجة إلى شفاء أرسل الله ابنه مولودا من امرأة مولودا تحت الناموس ليشترينا بدمه ويخلصنا فنصبح وارثين الملكوت وأبناء الله بالتبني. بالنعمة نحن مخلصون لا بسبب فضائلنا”.
أضاف: “إن محبة الله تتخطى كل فهم بشري.الله الكلي القدرة الأزلي الأبدي يتخذ جسدنا ويولد تحت الناموس ليخلص البشرية الساقطة. تجسد ليضع حدا لنمط الحياة العتيق جاعلا نفسه النموذج والمثال لكي يبعد البشر عن عاداتهم القديمة ويقودهم إلى ملكوت الله”.
وأضاف: “الولادة أمر لا رأي لنا فيه. نحن لا نولد بمشيئتنا ولا نعاين ولادتنا. إنها عطية نعطاها وليست عملا شخصيا إراديا. مع ولادة المسيح صار بمقدور الإنسان أن يتحكم بولادته الجديدة في المسيح أن يقررها أن يدخل في جدة الحياة “كل الذين قبلوه أعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه” (يو 1 12). بتجسد المسيح تنفتح السموات لتقبل من اقتبل المسيح وآمن به ليكون في حياة أبدية لا يشكل الموت فيها النهاية كما هي الحال في الولادة الطبيعية. لذلك كان المسيحيون في العصور الأولى لا يهابون الموت من أجل إيمانهم لأنهم على يقين أن حياتهم الحقيقية تبدأ عند شهادتهم”.
وأردف: “منذ التجسد انتفت الهوة بين الله والبشر وامحت العراقيل التي تحول دون تقدس الإنسان وتألهه. لكن مشكلة الإنسان أنه لا يعقل هذه الحقيقة ولا يحاول السير نحو المسيح والإتحاد به. هذا الأمر لا يعتمد على قدرات الإنسان الفكرية أو على معرفته الدقيقة لكل ما هو مادي أو حسي بل على نقاوة قلبه وإتمامه وصايا الرب ومشيئته. عندها يحصل على نعمة الروح القدس الممجدة والمؤلهة”.
أضاف: “النبوءات في العهد القديم تكلمت عن مجيء المسيح لكن اليهود الذين كانوا يعتبرون أنفسهم شعب الله لم يفقهوا كنه هذه النبوءات ولم يتعظوا. ولأن الإنسان شكاك ولا يصدق إلا ما يراه بأم العين تجسد الإله ليصبح منظورا. ولادته كانت تفوق الإدراك إذ إنه ولد من عذراء. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي “غير المتجسد يتجسد والكلمة يتحد بالأرض غير المنظور ينظر وغير الملموس يلامس ومن لا بدء له يبتدئ وابن الله يصير ابن الإنسان يسوع المسيح هو أمس واليوم وإلى جيل الأجيال”.
وتابع: “هيرودس اضطرب لأنه خاف على عرشه. أهل أورشليم أوصدوا آذانهم وأغلقوا عيونهم ولم يريدوا أن يعرفوا. كفروا بالحقيقة حقيقة ولادة الطفل الإله وحاربوه لكن الحقيقة تنتصر وهذا الطفل الإلهي أصبح راعيا للمسكونة بأسرها بعد أن رفضه شعبه. ميلاده كان فرصة لهم ليتحرروا من خطاياهم لكن الخطيئة شهية تغري الضعفاء الذين يهابون سلوك الطريق الضيق.
المجوس أتوا من بعيد يفتشون عن المولود الجديد ملك اليهود. كانوا يعلمون أن هيرودس هو ملك اليهود لكن قوة غير منظورة دفعتهم للسجود للطفل الإلهي والنجم الذي ظهر لهم في وضح النهار بتدبير إلهي سار بهم من الشمال من بلاد فارس إلى الجنوب حيث فلسطين التي ولد فيها يسوع. لم يهابوا الأخطار ولا غضب هيرودس وسجدوا للطفل المولود في مغارة وقدموا له الهدايا اللائقة بالملوك ذهبا ولبانا ومرا. لقد أنار الله عقولهم وهم استجابوا لنداء الرب. كم من مرة نغلق عيوننا وآذاننا وعقولنا عن صوت الرب فقط لأنه لا يناسب طموحاتنا وأغراضنا طفل مولود في مذود من أم فقيرة لا موضع لها أمور لا تجذب أحدا لكن الوحي الإلهي قاد المجوس وهو نفسه دعاهم إلى العودة إلى بلادهم بعد السجود للمولود الجديد دون الرجوع إلى هيرودس”.
وقال: “من يفتح قلبه لله يفيض في داخله نور يملأ كيانه ويقوده إلى الخير والحق. أما ذاك الذي يعشش الشر في قلبه فيقوم بأعمال شريرة تعكس سواد داخله. هيرودس الخائف من الطفل أمر بقتل صبيان بيت لحم من عمر سنتين فما دون ظنا أن شره هذا يقضي على من سماه المجوس ملك اليهود. لكن الحق لا بد منتصر والحقيقة تسطع رغم كل العوائق”.
وأردف: “نحن نعيش في عصر يغلب عليه السواد. حروب وقتل وحقد وانتقام وتجويع وتهجير واللائحة تطول. ورغم مجيء المسيح وكرازة الرسل وتقوى القديسين ما زال الإنسان غارقا في الخطيئة. كيف يمكن للانسان المفتدى بدم الإله أن يتخلى عن بنوته لله ويعود عبدا لشهواته وسقطاته لقد حل شمس العدل ليزيل ظلام النفوس لكن المدعوين كثيرون والمختارين قليلون لأن من يقبلون النعمة بملء إرادتهم قليلون.
نعم الله كثيرة وهو يغدقها علينا لا استحقاقا منا بل بسبب محبته اللامحدودة ورحمته. لكنه لا يتجاوز حريتنا”.
وتابع: “لقد أعطانا الرب وطنا جميلا لم نع أهميته ولا حافظنا عليه كما يجب وأخشى أن نبكي عليه إن لم نستدرك الأمور سريعا. لبنان لنا جميعا. لكل أبنائه بكل فئاتهم وطوائفهم وانتماءاتهم وإن اصابه مكروه يصيب الجميع لا فئة دون أخرى. إن استنزفنا ماليته سوف تنعكس النتائج علينا جميعا. إن أهملنا غاباته وأسأنا إلى بيئته سوف ندفع جميعنا الثمن. إن خالفنا المواثيق الدولية وشرعة الأمم المتحدة فالمتهم يكون لبنان كله أي اللبنانيون كلهم لا فئة أو طائفة بعينها. كلنا مسؤولون”.
ولفت الى “ان العالم يتقدم ويتطور ونحن نزداد تخلفا وفقرا وجهلا وتراجعااقتصاديا وانحلالا أخلاقيا وتفككا اجتماعيا. أين الطاقة الخلاقة التي تحرك الإنسان وتدفعه إلى طرح التساؤلات والتمرد والنقد الخلاق والإبداع، أين الإيمان بالله الذي يزرع في القلب المحبة والرجاء؟”.
وقال: “مطلوب منا جميعا عمل دؤوب من أجل إعادة بناء لبنان الموحد الحر المستقل المتميز الديموقراطي بعيدا من المساومة والترقيع والمصلحة. مطلوب منا تحصين لبنان ضد الإنقسامات والتعديات والسمسرات والترضيات والحصص والصفقات. مطلوب إعادته عاصمة للثقافة والسلام والتسامح والحوار والحرية، حرية الرأي وحرية التعبير السليم والمسؤول والعدالة ونبذ العنف والتطرف واحترام التنوع والإختلاف والحداثة والإبداع. مطلوب من الجميع مكافحة الفساد في النفس أولا ثم عند الآخرين. الدين العام يتراكم ويهدد مستقبل البلد وفي المقابل ثروات طائلة وصفقات وشبهات. التوافق قد يعني التقاسم. لم لا تطبق القوانين؟ إطلاق الشعارات لا يكفي. المطلوب التزام جدي من الجميع والتخلي عن المصالح الخاصة من أجل المصلحة العامة، مصلحة الوطن والمواطنين”.
وأشار الى “ان النقد البناء يقوم الإنحراف، لذلك من واجب الجميع لفت النظر إلى مواقع الخلل لإصلاحها. قد يقول قائل إن لبنان يعيش وسط منطقة مشتعلة وليس باليد حيلة. نجيب بإمكاننا إصلاح بيتنا الداخلي، بتطبيق القوانين على الجميع دون تفريق وليس على الضعيف وحده فيما القوي دائما بريء مع من ينتمي إليه. بإمكاننا بسط العدالة في كل الأرجاء، تقليص الدين العام باعتماد الشفافية في التلزيمات والمناقصات لإزالة الشك في تصرف المسؤولين من أذهان المواطنين، حماية الصناعة الوطنية، معالجة النفايات وخفض نسبة تلوث الهواء والمياه وتشجير المناطق ومنع التعدي على البيئة ومعالجة أزمة السير واختناق الطرق والكهرباء والبطالة وغيرها من الأمور الضرورية لحماية المواطنين”.
نحن بحاجة إلى ورشة عمل داخلية تخلصنا من كل ما يعيق الوصول إلى حياة كريمة يتمناها كل مواطن وهي من حقه على دولته. هذا المواطن لم يعد يؤمن بقدرة دولته على العمل، هذه الدولة التي لم تنجح بمعالجة مشكلة الكهرباء أو النفايات منذ عقود هل هي قادرة على اجتثاث الفساد من النفوس والأخلاق؟ لكننا جميعنا نحيا على الرجاء”.
وختم عودة: “في هذا العيد المبارك نرفع الدعاء إلى الطفل الإلهي كي يرأف بنا ويساعدنا مسؤولين ومواطنين على العمل الصامت والفعال من أجل إعادة لبنان إلى مستوى الدول الحضارية المتقدمة. نسأله أن يلهم المسؤولين من أجل التعاون معا للنهوض بالبلد وتغيير الواقع الأليم الذي يعاني منه المواطنون بالحكمة والإستقامة والنزاهة والصدق واحترام القيم والقوانين ومخافة الله والإتكال عليه لأنه وحده معيننا ومخلصنا. نحن نصلي من أجل أن يحفظ الرب حكامنا وجيشنا وجميع المواطنين ويهديهم إلى عمل كل صلاح. نصلي أيضا من أجل جميع المقهورين والمفقودين والمظلومين والمخطوفين والمرضى عسى يجدون تعزيتهم في الرب المخلص الذي نسأله أن يعيد إلينا أخوينا المطرانين بولس ويوحنا سالمين ويعيد القدس إلى أهلها ويعيد الجميع إلى ديارهم. في عيد ميلاد الرب يسوع عيوننا شاخصة إلى القدس وقلوبنا مرفوعة إلى رب الأرباب كي يحل سلامه في مدينته المقدسة ويبسط عدالته عليها وعلى كل المسكونة لأن عدالة الأرض استنسابية وناقصة والقدس أولى ضحاياها. ألا كانت ذكرى ميلاد المخلص انتقالا لنا من الحياة القديمة الفاسدة إلى جدة الحياة في المسيح يسوع ربنا آمين”.