جدد لبنان تمسكه ب”المعادلة المتوازنة” القاضية بتحصين ساحته الداخلية “من خلال اطلاق مسار حكومي هادف كضمانة لتماسك الكيان ضمن مؤسسات الدولة وبما يحفظ السلم الأهلي”، توازيا “مع القيام بكل ما يمكن لتقوية علاقات لبنان مع أشقائه العرب واتخاذ الموقف الواضح من كافة القضايا التي تحظى بالاجماع العربي دون المس بوحدتنا الداخلية”. وأعرب “لأشقائنا العرب عن ادانتنا لكل ما طاولهم من اعتداء على صفو أمنهم، وعن تضامننا الكامل معهم بكل ما يمس أمن واستقرار بلادهم، اذ ما يمسهم يمسنا قبلهم”.
جاء ذلك في كلمة لبنان التي ألقاها المندوب الدائم المناوب لدى جامعة الدول العربية انطوان عزام، في الاجتماع الطارىء لمجلس وزراء خارجية الجامعة، حيث مثل الجمهورية اللبنانية بتكليف من وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل.
وفي ما يأتي نص الكلمة:
“السيد الرئيس، أصحاب المعالي والسعادة،
يلتئم مجلسنا اليوم في دورة غير عادية وفي زمن غير عادي، بتنا جميعنا ومع شديد الأسف نستنفر فيه طاقاتنا ونستعين بصداقاتنا لرد الضربات ولدرء التهديدات التي لم تعد ترتوي من توتير الجو العام في كل من دولنا العربية وحسب، بل بات يستهويها المس الجوهري بمكونات سيادتنا الوطنية والتوازنات الناظمة لاستقرارنا الداخلي، لتضاف إلى التحديات الأمنية الضاغطة على جبهات الإرهاب التكفيري الذي لا يعدم وسيلة للنفاذ من أي ثغرة الى أمن مجتمعاتنا المسالمة، كل ذلك تحت الأنظار الماكرة للعدو الاسرائيلي الذي يتحين الفرصة ليمارس حقده على الأمن القومي العربي، مستغلا أي لحظة ضعف أو فرقة أو تشرذم بين دولنا العربية للنيل منها جمعاء.
ان هذا التوصيف السريع لواقع الحال يجعلنا نستنتج ودون كثير عناء بأن لا سبيل لنا للخروج من تلك المعادلة الضاغطة سوى بسلوك خطين متوازيين لا يتعارضان ولا يحتكان ببعضهما البعض، أي لا يأتي التقدم على صعيد واحد منهما على حساب الآخر، وهنا يكمن كل الجوهر:
أولهما هو تعزيز مؤسساتنا الدستورية، أي تقوية دعائم الدولة على أسس متينة لتستوعب تطلعات شعوبنا وحقها الطبيعي في العيش بأمان بحماية أجهزة الدولة والجيوش الوطنية التي يقع في صلب واجبها صون الكرامة الوطنية والدفاع عن سيادة البلاد.
أما الخط الموازي الآخر، فيكمن في الترفع عن كل ما من شأنه اثارة الفرقة بين دولنا العربية، والاسراع الى حل أي خلاف بالحوار العقلاني بحيث يصغي كل طرف لهواجس الآخر بعيدا عن لغة التهديد والوعيد أو – لا سمح الله – عن كل ما قد يعتبر مسا باستقلال أو سيادة البلد، وذلك احتراما لروابط الأخوة، كما والتزاما بميثاق جامعة الدول العربية.
وعليه فان لبنان، العضو المؤسس لجامعتنا، العربي الهوية والانتماء في النص كما وبالممارسة، في دستوره كما وفي نضالات شعبه، في ماضيه وحاضره ومستقبله، انما هو على قناعة راسخة بأن مسلكي تقوية مؤسسات الجمهورية اللبنانية وتعزيز العمل العربي المشترك ليس فقط لا يتعارضان، بل يغذي كل واحد منهما اندفاعة وزخم الآخر.
انطلاقا من تلك القناعة، واتقاء لشر الحرائق التي راحت تنهش العديد من الدول العربية الشقيقة، سعى لبنان جاهدا الى تحصين ساحته الداخلية من خلال اطلاق مسار حكومي هادف كضمانة لتماسك الكيان ضمن مؤسسات الدولة وبما يحفظ السلم الأهلي، توازيا مع القيام بكل ما يمكن لتقوية علاقات لبنان مع أشقائه العرب واتخاذ الموقف الواضح من كافة القضايا التي تحظى بالاجماع العربي دون المس بوحدتنا الداخلية. أما القضايا الخلافية، فقد آثر لبنان الرسمي، وبالاستناد الى موقفه المبدئي القاضي بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، بالابتعاد عن كل ما يمكن أن ينقل التوتر الى ساحته الداخلية، ملتزما النأي بنفسه لعدم قدرته على التأثير ايجابا في الصراعات الدائرة من حوله، مكتفيا بتحمل الأعباء الانسانية الناجمة عن تحوله الى بلد نزوح بامتياز.
نجدها فرصة اليوم، لنجدد تمسك لبنان بهذه المعادلة المتوازنة ولنعرب لأشقائنا العرب عن ادانتنا لكل ما طاولهم من اعتداء على صفو أمنهم، وعن تضامننا الكامل معهم بكل ما يمس أمن واستقرار بلادهم، اذ ما يمسهم يمسنا قبلهم، كيف لا والمواطنون اللبنانيون يعيشون في تلك الدول الشقيقة في بلادهم الثانية، ويساهمون تحت سقف قوانينها وأنظمتها بنهضتها وتطورها والتي بات استقرارها ونموها صنوا لأمنهم ورخائهم. كيف لا وقد اضطلعت هذه الدول بدور الراعي والداعم الأول لاقتصاد لبنان واعادة اعماره، وبالتالي فاننا نبقى على يقين بأن من ساهم بلا حدود في ترسيخ السلم الأهلي في لبنان يستحيل عليه إلا وأن يتفهم مقتضيات الوفاق الوطني ومستلزمات العيش المشترك فيه.
وبالمقابل، فان الجمهورية اللبنانية لن تبخل، ضمن الحدود الضاغطة لامكاناتها وللهوامش المتاحة لقدرتها على التأثير، في توفير شتى أنواع التضامن والدعم لأي دولة عربية تحدق بها الأخطار والتهديدات، معولين على استمرار دعم الأشقاء العرب للبنان الذي لا ضمانة له وللعرب معا خارج سيادة وكرامة واستقلال مؤسساته.
يبقى لنا أن نقول حول مسألة كيفية التصدي للتدخلات الخارجية في الدول العربية من أي جهة غير عربية كانت، بأن المسؤول عن نفاذ شتى أنواع التدخل الخارجي في شؤون دولنا العربية، هو التراجع في منظومة الأمن القومي العربي جراء التباعد والانقسام، هو الفراغ الذي لا تتردد أي من القوى الاقليمية والعالمية في العمل على استغلاله وملئه وفقا لمصالحها، هي الانقسامات الداخلية ضمن البلد الواحد وصولا الى الحروب الأهلية الدامية، هو ضعف مؤسسات الدولة وتراجع سلطتها وهيبتها واضمحلال قدرتها على الدفاع عن سيادتها في وجه التدخلات الخارجية والاحتلالات. وبالتالي فان آخر ما يجب أن تكون عليه كيفية التصدي لتلك التدخلات هو المزيد من التباعد والانقسام بين الأشقاء العرب والمزيد من الاضعاف لمؤسسات الدولة والمزيد من الازكاء للتوترات الداخلية وتعريض السلم الأهلي للخطر، حيث لا يستفيد عندها سوى الاستباحات الخارجية لوطننا العربي.
لا خلاص لنا الا بالتفهم بين بلداننا العربية وبتعزيز الأمن القومي العربي وبتطوير البناء المؤسساتي لدولنا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.