ألقى العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
“عباد الله، أوصيكم وأوصيكم نفسي بما أوصانا به الله سبحانه وتعالى ونحن ندخل في شهر صفر، أن ندخله دخول المتفائلين، فالتفاؤل سمة حياتنا، فنحن دائما متفائلون بالله، وأن لا ندخله دخول الخائفين منه، المتشائمين مما قد يحدث فيه من ابتلاءات أو سوء. ولهذا، نحرص على أن نقرن ذكر هذا الشهر بالخير والنصر، فنقول عنه إنه صفر الخير وصفر المظفر، لدفع ما رسخ في الأذهان والنفوس من أنه شهر نحس. وإذا كان هناك من يشير إلى وجود أحاديث عن تشاؤم يحل بحلوله أو في غيره من الأيام التي تسمى بأيام نحسات، فإننا نستطيع القول أن لا أساس لها، ويكفي في ذلك حديث: “من ردته الطيرة عن حاجته، فقد أشرك”، و”لا تعادوا الأيام فتعاديكم”. وإذا كان البعض يبرر التشاؤم منه، بأنَّ فيه مناسبات حزينة مثل أربعين الإمام الحسين ووفاة رسول الله، فهذا لا يبرر أن يجعل الشهر نحسا، وإلا لصارت كل الأشهر والأيام نحسة، إذ ما من يوم وما من شهر إلا وتوفي فيه نبي أو ولي. ثم هناك في هذا الشهر أيام فرح وسرور، منها مناسبة ولادة الإمام الكاظم، وزواج رسول الله من خديجة، وزواج علي من الزهراء. أما إن كان هناك أدعية أو دعوات إلى الصدقة، فهي لا تريد أن تؤكد صحة التشاؤم، بل معالجة ما يدخل إلى النفوس نتيجة تربية أو توجيه أو فهم خاطئ للدين ونصوصه، وهذا ما يدعونا إلى أن لا نخضع لأيِّ فكرة سلبية أو نرتب الأثر عليها، حتى نتثبت منها ولا يخدعنا أحد. هذا ما نريده في الدين، وهو ما نريده في السياسة، وفي كل مكان يدس فيه السم بالعسل. وبذلك، نكون أكثر وعيا وقدرة على مواجهة التحديات”.
وقال: “البداية من لبنان، الذي شهد في الأيام الماضية جلسة نيابية عامة عنوانها البحث في موازنة العام 2017. ونحن في هذا المجال، في الوقت الذي نلحظ إيجابية تسجل للحكومة وللمجلس النيابي في إقرار موازنة للبلد بعد اثني عشر عاما من غيابها عن المشهد، نرى ضرورة استمرارها، نظرا إلى دورها في تحقيق الانتظام المالي، فقد كشفت المناقشات التي جرت على الهواء الصورة القاتمة التي تلف المشهد المالي والاقتصادي، الذي ينعكس سلبا على كل الميادين الأخرى، ويؤدي إلى زيادة الإحباط لدى الناس وهم يشاهدون عدم مبالاة ممثليهم في حضور جلسات هي في غاية الأهمية لما ينبغي أن يتداول فيها”.
أضاف: “كما كشفت المناقشات أيضا مدى الخلل الذي برز في الموازنة بين الواردات، والمداخيل، والصرف، وارتفاع نسب العجز في الموازنة، وانعدام نسبة النمو، والحديث الموثق عن مواطن الهدر، والفساد، والتهرب الضريبي، والمحاصصات، وعدم معرفة مصارف المليارات الإحدى عشرة، حيث يكثر الحديث عن تسويات أدت إلى إخراجها من التداول. ومع الأسف، لم يستمع اللبنانيون إلى مواقف جدية أو إلى رؤية أو حلول للأزمات الاقتصادية العاصفة. وعلى الأقل، هم لم يلحظوا أي إعادة نظر في السياسة التي أدت إلى تدهور المالية العامة، حيث اكتفى النواب، أو لنقل أغلبهم، من أجل الدقة، بخطابات شعبوية في هذا الزمن الانتخابي أو بالاكتفاء بإدانة الفساد”.
واستغرب أن “يستمع اللبنانيون إلى انتقادات للدولة وللحكومة من ممثلي هذه الدولة والحكومة، في الوقت الذي ينتظرون منهم أن يبينوا لهم الإنجازات التي حققوها أو المشاريع التي يقومون بها. إن من الطبيعي أن تنتقد المعارضة الَّتي لا تمثيل لها في الحكومة، ولكن من غير الطبيعي أن يصدر ذلك عمن يفترض بهم أن يكونوا موالاة ومشاركين في قراراتها، ونحن نعرف أنَّ من يتواجدون في الحكومة ليسوا نكرة فيها، بل هم أصحاب قرار، بعدما أصبح واضحا أن القرارات بأغلبيتها تؤخذ بالتوافق والمشاريع بالمحاصصة”.
وقال: “إننا أمام هذا الواقع الاقتصادي والمالي الخطير، ندعو اللبنانيين إلى أن يكونوا أمناء على هذا البلد، وأن يكونوا رقباء فيه لا أن يكونوا على هامشه. إن من حق الأجيال القادمة علينا، إن لم نقل الأجيال الحالية، أن نرفع الصوت عاليا في مواجهة كلِّ من يستبيح الأمن المالي والاجتماعي أو يدير ظهره للفساد والإفساد. ولا يعتبرن أحد أن لا صوت له، فكل له صوته، ولا بد من أن تنضم الأصوات الواعية لتشكل رأيا عاما ضاغطا الآن، وبالطبع عندما يراد لنا أن نختار ممثلينا في المجلس النيابي”.
ورأى أنه “في الوقت نفسه، وعلى وقع الجلسات الَّتي جرت، لا بدَّ من أن يتحرك القضاء والجهات الرقابية للقيام بدورها في متابعة قضايا الفساد والهدر للمال العام، فلا ينبغي أن يضيع الحديث عنها في أدراج المجلس النيابي، وأن تبقى تسجيلا للنقاط أو صرخة في واد”.
وتابع: “نبقى في لبنان، لنسجل ارتفاعا في منسوب الجريمة فيه، نخشى أن لا تكون آخرها الجريمة المروعة في زقاق البلاط، التي نفَّذها فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وهو ما يشير إلى حجم المشاكل التربوية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، وضعف الوازع الديني، وانعدام الخوف من العقوبة الرادعة. إننا نخشى في ظل تمادي نسب الجريمة أن يعنون لبنان ببلد الجريمة. ومعالجة هذا الواقع تستدعي استنفارا تربويا واجتماعيا وإعلاميا تقوم به الأسرة والمدرسة ودور العبادة، لدراسة أسباب هذه المشكلة ومعالجتها، فضلا عن تشديد دور الدولة في تطبيق العقوبة الرادعة”.
وأضاف: “بالانتقال إلى ما يجري في العراق، فإننا نهنئ الحكومة العراقية على الخطوة الجريئة التي اتخذتها في إعادة الوحدة إلى البلاد، والتي من الطبيعي أن تستتبع بحوار جاد وموضوعي يحفظ للعراق وحدته، ويساهم في تأمين احتياجات ومتطلبات أي مكون من مكونات الشعب العراقي، فلا بد من أن يحصل الجميع على حقوقهم، بعيدا عن سياسة ابن الست وابن الجارية. إنَّنا نعيد التأكيد على العراقيين أن يكونوا أمناء على وحدة بلدهم، فالعراق لا يقوم إلا بكل مكوناته وطوائفه وأديانه ومذاهبه وأعراقه”.
وختم: “أخيرا، لا بدَّ من أن ندين، وبشدة، التفجير الوحشي والدامي الذي حصل في الصومال، وأودى بحياة المئات، وخلف الكثير من الجرحى، والذي لم تتبناه جهة بعينها، ولكنه يشير إلى هذا المنطق الإجرامي الذي لا يأخذ بالاعتبار أي قيم دينية أو إنسانية”. والحدث الآخر هو الهجوم الذي نفذته جهات متطرفة عنونت نفسها بعنوان المسيحية على مسجد في بلدة كيمبي في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث قتل أكثر من خمسة وعشرين مسلما، وبدم بارد. إننا نؤكد في هذا المجال، أنَّ الإجرام لا دين له سوى الإجرام، سواء صدر عن مسلم أو مسيحي، وأن رسالة الأديان ستبقى رسالة محبة وعدل، ونشدد على العلماء المسلمين والمسيحيين أن يتكاتفوا في مواجهة أية ظاهرة تسيء إلى قيمهم، تحت أي عنوان عنونت نفسها”.