وجه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة، لمناسبة بداية السنة الهجرية الجديدة، نصت على ما يلي:
الحمد لله النافذ أمره، الدائم إحسانه، الشديد بطشه وقهره، الواجب حمده وشكره، لا يرجى إلا نفعه، ولا يخشى إلا ضره، فتبارك اسمه، وجل ذكره، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثنى عليه، ونستغفره من جميع الذنوب ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في محكم كتابه العزيز: “إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم”. والقائل تعالى: “ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما”، والقائل سبحانه: “ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون”، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه الذي أوذي في الله فصبر، وهاجر في سبيل الله فظفر وانتصر، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، الذين هاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون.
أما بعد، أيها المسلمون، مع حلول كل عام هجري جديد، يقف المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها محتفين بعام جديد، ومستذكرين أحداث الهجرة النبوية الشريفة، التي تستحق الوقفة المتأنية، لأنها كانت في حقيقتها، حدثا بالغ الأهمية في تاريخ العرب والمسلمين.
عندما اصطحبت السيدة خديجة رضي الله عنها النبي صلوات الله وسلامه عليه، إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان شيخا كبيرا، عالما بالنبوات والكتب، لإخباره بما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من وحي بغار حراء، وسؤاله عن معنى ذلك، قال ورقة: (هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى عليه السلام، فامض لما أمرت به، وليتني أكون معك حين يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أومخرجي هم؟ قال: نعم، ما أرسل نبي إلا أوذي وأخرج، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا)، ثم ما لبث ورقة أن توفي وفتر الوحي.
ما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشقات التي سيلقاها في دعوته، وقد كانت كثيرة. بل سأل عن الهجرة أو التهجير أو الإخراج الذي سيناله من بني قومه. فالوطن عزيز على كل أحد، أيا يكن وضع الإنسان فيه. وهناك آثار كثيرة تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلال بن رباح رضي الله عنه بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، وما كان يعانيه من شوق وحنين إلى مكة، موطنهما الأول.
أيها المسلمون، أيها اللبنانيون، هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب، التي أطلق عليها اسم المدينة، بعد أن تعذر عليه البقاء بمكة ، بسبب التعذيب والاضطهاد له ولأتباعه الذين مات بعضهم تحت التعذيب. ثم هناك سبب آخر، وهو أنه رأى إمكانات نجاح للرسالة التي أرسل بها، ما كانت أو ما عادت متوافرة بمكة تحت الحصار. وقد كان عليه الصلاة والسلام عندما تكاثرت عليه العروض، وسط التهديدات له وللمؤمنين قد قال: (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما فعلت، أو أهلك دونه! وهكذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اختار الهجرة؛ فإنما لمتابعة الكفاح في سبيل نجاح الدعوة والرسالة. هناك مشقة الهجرة، وهناك مشقات متابعة الدعوة في مكة، ولذلك كانت الهجرة هي المخرج رغم الأعباء والمشقات.! وكانت انتقالا من أجل الحفاظ على العقيدة، وتضحية بالنفس والمال والأهل والولد، من أجل العقيدة، فهي تبدأ من أجل العقيدة ، وغايتها العقيدة.
لقد كانت الاعتبارات الأولى والأعلى إذا للرسالة والعقيدة والتكليف. لكنه صلوات الله وسلامه عليه، ما نسي موطنه ولا المؤمنين، فقد هاجر قسم منهم إلى الحبشة، وهاجر معظمهم معه إلى المدينة، إلا من كتم إيمانه. ثم إنهم وبالعزيمة نفسها، عادوا إلى مكة فاتحين، ما اضطهدوا أحدا، ولا جازوا أحدا على الإساءة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل الذين اضطهدوه والمؤمنين معه: (اذهبوا فأنتم الطلقاء!).
أيها المسلمون، أيها اللبنانيون، تحمل ذكرى الهجرة إذا لنا جميعا رسائل عدة: الأولى: في حب الوطن، والحرص على أمنه وسلامه والحريات فيه؛ وأنه إذا كان لا بد من المغادرة من أجل العمل، أو للضيق في المعيشة، أو للاضطهاد؛ فإن التصميم يبقى على العودة إلى الوطن المهجور أو المهجر منه. وهذه هي العزيمة الباقية في فلسطين وسوريا والعراق، وسائر ديار العرب والمسلمين، التي نال مواطنيها الاحتلال أو الطغيان، والتهجير الطائفي والإثني أو الديني.
والرسالة الثانية: أن الذين يضحون بإيمانهم وحرياتهم، وبوسعهم إيجاد مخارج من أجل الإيمان والحرية، هم مخطئون بالخضوع. وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: “ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة”، بمعنى أن الهجرة يمكن أن تكون حلا مؤقتا حفظا للإيمان والحرية، وإنسانية الإنسان وكرامته وحياته. ونحن نعلم أن معظم الذين غادروا أوطانهم في فلسطين وبورما وسوريا والعراق، هم إنما فعلوا ذلك مرغمين، ويتهددهم الموت أو الجوع. بل إن القرآن الكريم يعذر أولئك المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة، كما يعذر أولئك الذين يخرجون عن إيمانهم تحت التعذيب، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان: قال تعالى: “إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان”.
والرسالة الثالثة: وهي ذات وجه واحد، ان على كل منا أن يعمل ويناضل، بحيث يبقى عزيزا وكريما وحرا، ومواطنا صالحا في وطنه. ولكي يكون كذلك، ينبغي أن يتمتع الوطن بالاستقرار والسكينة، وبالجيش الوطني القوي، الذي يحفظ الوطن والمواطن.
أيها المسلمون، أيها اللبنانيون، إننا نوشك أن نخرج من الأهوال التي خلفتها سنوات الاضطراب بالجوار. ما استطعنا بالطبع الحفاظ على مبدأ النأي بالنفس، الذي أجمعنا عليه عام 2011. كما أن مآسي اللاجئين السوريين تكاد تذهل العقل. وهذا إلى الخسائر الكبيرة التي نزلت بالقوى العسكرية والأمنية، على أيدي الإرهابيين. ووسط هذه الظواهر والمظاهر، يكون علينا أن نستفيد من دروس سنوات المحنة، وأهم تلك الدروس، الاعتماد على الجيش الوطني، ودعمه والتضامن معه، والثقة به.
والأمر الآخر: النضال من أجل الدولة الوطنية القوية والحرة، وذات السيادة، التي تتوافر لمواطنيها المشاركة، ولا يضطرون إلى الهجرة وترك الوطن. إن التضامن الوطني، والمصلحة الوطنية، هما أمران ضروريان للسلام الوطني وللحريات، وحكم القانون.
أيها اللبنانيون، نحن مقبلون على استحقاق وطني كبير، يتمثل في إجراء انتخابات نيابية في الأشهر القليلة المقبلة. والسؤال الذي يطرحه المواطن الآن: هل ستحصل هذه الانتخابات النيابية أم لا؟ هذا التشكيك، أو هذا التردد في مواجهة هذا الاستحقاق في رأينا، لا يفيد الوطن بشيء. فمنذ انتخاب رئيس للجمهورية، العماد ميشال عون، وتشكيل حكومة إعادة الثقة برئاسة الرئيس سعد الحريري إلى اليوم، قد تحقق الكثير من الإنجازات السياسية والاجتماعية والعسكرية البناءة، التي تبشرنا بمستقبل واعد، وبأمل بأن الانتخابات النيابية ستجري، وبأن هذا الاستحقاق الديموقراطي، سيكون لمصلحة المواطنين، وسيشكل نقطة تحول لفتح صفحة جديدة على مستوى إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، الانتخابات ستجري.. ولكن من الآن إلى أن تجري الانتخابات ، ندعو الله تعالى، أن تؤمن كل مستلزماتها، وأن تجري في أجواء من المحبة والتعاون والتلاقي بين القوى السياسية، وفي أجواء هادئة وديموقراطية، خالية من المشاكل والعقبات والعراقيل. ونأمل أن يتحمل الجميع مسؤولياتهم في ما بعد الانتخابات ، على نحو يضمن المشاركة الفعلية لكل المكونات الفاعلة في المجتمع اللبناني. وما نراه مناسبا لبناء الوطن، هو تعزيز العمل المؤسساتي، ودعم مؤسساتنا الرسمية والعسكرية، ليبقى الوطن قويا بجيشه ووحدة شعبه.
أيها الأحبة، لبنان، وخصوصا حدوده، لم ولن يسقط في فخ المؤامرة، بل لقد أثبت جيشنا اللبناني الباسل، أنه قادر على دحر الإرهاب، ومحاربة كل من تخول له نفسه التعدي على أمن الوطن والمواطن. وانتصر جيشنا بدعم الحكم له والحكومة والشعب على الإرهاب، الذي كان يهدد حدود الوطن. وسيبقى لبنان مرفوع الرأس بإذن الله تعالى، رغم العدوان الإسرائيلي، وإرهاب المجموعات المسلحة الخارجة على القانون، الذي مورس على أبنائنا في المؤسسة العسكرية. واليوم، الجيش مطالب بأن يبقى على استعداد تام لمواجهة العدو الإسرائيلي، الذي يريد شرا بالوطن.
أيها المسلمون، أيها اللبنانيون، لقد قامت دار الفتوى، ولا تزال تقوم بدور كبير عبر تاريخ لبنان، في الجمع بين اللبنانيين جميعا مسلمين ومسيحيين، وفي تعزيز القيم الوطنية والعيش المشترك، وكان دورا رائدا، في الكلمة الطيبة الجامعة، ونحن قادمون على مرحلة مهمة من تاريخ لبنان، هي مرحلة عودة الاستقرار والتعاون والوئام بين أركان الدولة، وعودة كل القوى السياسية إلى المؤسسة الدستورية، لتتبادل النقاش والحوار في كل ما ينقذ لبنان، وينعش الدورة الاقتصادية، ويسهم في إحلال السلام والأمن والازدهار في الربوع اللبنانية.
في ذكرى الهجرة ، نسأل الله سبحانه وتعالى، أن يجزي نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خير ما يجزى به نبي عن أمته. فقد ناضل وجاهد، وبلغ الدعوة، وأدى الأمانة، وهاجر من أجل إعزاز أمة المؤمنين، وانتزاع حريتها.
ونسأل الله سبحانه وتعالى ، أن يسلم وطننا من اللأواء والفتن، ومن هول الأعباء، ومن انقسام الكلمة، ومن سيطرة المصالح الضيقة.
اللهم لقد قلت: “ادعوني أستجب لكم”، ونحن ندعوك لتؤمن شيوخا ركعا، وأطفالا رضعا، ونسوة خشعا، من ميانمار وإلى فلسطين وسوريا والعراق.. اللهم ارحم ضعفاءنا وقوهم، وقو عزائمنا، فلا نخدع ولا نخضع، إنك سميع مجيب.
وكل عام هجري وأنتم بخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.