الثلاثاء , 24 ديسمبر 2024

موقف عون من اتفاق الطائف يتأرجح بين رفضه والتزامه

مرت الثلاثاء الماضي، الـ 13 من أبريل (نيسان)، الذكرى الـ 46 للحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في مثل ذلك اليوم من عام 1975، وانتهت في آخر عام 1989 بالتوصل إلى اتفاق الميثاق الوطني في مدينة الطائف السعودية، بين البرلمانيين اللبنانيين على إصلاحات دستورية تكرست في الدستور اللبناني الجديد عام 1990، الذي ما زال يخضع للتجاذب حول تطبيقه، فيما تهب بين وقت وآخر موجات تدعو إلى تعديله وسط تمسك قوى رئيسة به في الخارج والداخل.

 

قائد الجيش آنذاك الجنرال ميشال عون، وبعدما عيّنه الرئيس السابق للجمهورية أمين الجميل يوم انتهاء ولايته عام 1988، رئيساً لحكومة انتقالية لتعذر انتخاب رئيس جديد، رفض اتفاق الطائف ورد على التوصل إليه بحل البرلمان الذي أقره. وأصرّ على انتخابه هو رئيساً، لكن النواب العائدين من الطائف انتخبوا النائب عن منطقة زحلة الياس الهراوي رئيساً بعد اغتيال الرئيس المنتخَب رينيه معوض، فتمترس في قصر بعبدا بعد خوضه حربَي “التحرير” ضد القوات السورية، و”الإلغاء” ضد “القوات اللبنانية”. وتطلب إخراجه من القصر الرئاسي الاستعانة بالقوات السورية، بغطاء أميركي، في 13 من أكتوبر (تشرين الأول) 1989، ثم انتقل إلى المنفى في فرنسا، لكنه ظل معارضاً لاتفاق الطائف بقوة، إلى أن أقر بأنه أصبح دستوراً ثم عاد عام 2005 إلى البلاد، وجرى انتخابه على أساسه رئيساً عام 2016 .

 

بين رفض الطائف والتزامه

تتأرجح مواقف الرئيس عون من اتفاق الطائف، بين رفض ضمني وتمني تعديله، فإذا تعذر ذلك في البرلمان، فبالممارسة، وبين تأكيد الالتزام به لا سيما أمام المسؤولين العرب والأجانب الذين يلتقيهم ويحرصون على تطبيق هذا الاتفاق، المؤكد عليه دائماً في بيانات مجلس الأمن. ولذلك يشهد الصراع السياسي الداخلي بين الفينة والأخرى سجالاً بين فريق عون وقوى سياسية أخرى تتمسك بـ”الطائف”، لا سيما رؤساء الحكومات السابقين الذين ينتقدون ما يعتبرونه خروج الرئاسة عن نصوص الاتفاق والدستور في ممارسة الصلاحيات، وفي الموقف من رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، تحديداً في أزمة الفراغ الحكومي الراهنة التي بدأت شهرها الثامن نتيجة الخلاف على تأليف الحكومة.

آخر المواقف التي تثير الذين يتمسكون بالطائف، ما نقلته إحدى الصحف المحلية عن الرئيس عون في يوم ذكرى الحرب، بقوله إن “المادة 53 من الدستور تنص الفقرة الثانية منها على أن الرئيس (يسمي ‏رئيس الحكومة المكلف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً إلى استشارات نيابية ملزمة)، وهناك قراءة ‏للإلزام هنا تتعلق بإلزامية الاستشارات لا إلزامية نتائجها”. ولكن الرئيس عون صرح في 8 أبريل (نيسان) الحالي، خلال استقباله الامين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي، أن “لبنان يلتزم تطبيق اتفاق الطائف الذي انبثق منه الدستور والكلام انّ الإتفاق مهدّد لا يستند الى الواقع وتروّجه جهات معروفة ومعنية بتأليف الحكومة”.

 

اجتهادات التخلص من الحريري

أراد الرئيس عون بهذا التفسير العودة إلى التركيز على مبدأ يعطيه القدرة على إنهاء تكليف الحريري تأليف الحكومة، وهو الأمر الذي يذكّر به الفريق الرئاسي بين الفينة والأخرى، في وقت لا ينص الدستور على مهلة للرئيس المكلّف أن يؤلف الحكومة خلالها، فيصدر اجتهادات لهذا الهدف.

ففي ظل الأزمة الحكومية الراهنة وتبادل الشروط حول صيغة الحكومة المقبلة وموازين القوى في داخلها وطريقة تسمية الوزراء وتوزيع الحقائب، يرفض الحريري الاعتذار عن عدم تشكيل الحكومة، ويصر على وجهة نظره في طريقة تأليفها، وتوزيع الحقائب الوزارية، لأن واحداً من أهداف وضع الشروط عليه هو إحراجه لإخراجه والتخلص منه للإتيان بغيره يكون مطواعاً للفريق الرئاسي كما تقول أوساط تيار “المستقبل” (يرأسه الحريري). وهو أمر كرره قبل أيام رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط بقوله في حديث لموقع “لبنان الكبير” الإخباري في 12 أبريل (نيسان) الحالي، إن “دوائر القصر الرئاسي تريد إلغاء الحريري”.

وسبق أن روّج مستشارو الرئيس عون، ومنهم الوزير السابق سليم جريصاتي، لفكرة إرسال رسالة من الرئيس إلى البرلمان (ينص الدستور على حقه بإرسالها لطلب أمر ما) يطرح عليه فيها انسداد أفق تشكيل الحكومة بعد تكليف الحريري في 22 أكتوبر الماضي بالمهمة، لعله يلغي التكليف، لكن رئيس البرلمان نبيه بري أبلغ مَن يعنيهم الأمر أن أكثرية البرلمان لن تجاري عون في مطلبه، فصرف النظر عن الفكرة.

 

السنيورة وميقاتي وباسيل و”الدستور النتِن”

إلا أن قول عون، نتيجة رغبته في التخلص من الحريري، إن الاستشارات النيابية لتسمية الرئيس المكلف تأليف الحكومة مُلزِمة بذاتها، لكن نتائجها غير ملزمة، اجتهاد يناقض النص الواضح برأي عدد من الدستوريين.

 

ويقول رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة لـ “اندبندت عربية” إن هذه الفكرة “لا أساس لها على الإطلاق، على الرغم من أنه جرى اختراعها قبل سنوات، وعادت فانطفأت. ولا حدود لوقاحة البعض في تفسير الدستور على ذوقه”. وأضاف السنيورة، “عندما يوجد شخص يقول عن دستور الطائف بأنه نتن وعفن، فإن ذلك يبيح قول كل شيء مخالف للدستور تحت هذا المنطق. ومَن يقول هذا الكلام من السهل أن يصل إلى هذه النتيجة (بأن الاستشارات النيابية ملزم إجراؤها لكن ليست نتيجتها). يفترض بمعلمه، رئيس الجمهورية الذي سبق أن أقسم على الدستور، أن يردعه لأنه يطعنه من قلب منزله، لكنه سكت عنه، بالتالي لا يمكن استبعاد أن يقوم هو بهذا الخرق الفاضح والتحريف المقصود للدستور”.

وكان السنيورة يشير بهذا التعليق إلى إعلان رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل في مؤتمر صحافي عقده في 13 أكتوبر الماضي (ذكرى إخراج عون من القصر الرئاسي من قبل الجيش السوري بعد اتفاق الطائف وانتخاب الهراوي رئيساً)، أن “لا إمكانية للعيش والاستمرار مع هذا الدستور النتن والعفن” الذي أتانا بالدبابة، وأكمل علينا بالفساد، وهلّق بدّو (يرغب) ينهينا بالجمود والموت البطيء”.

 

عون سبق وطبق إلزامية نتيجة الاستشارات

وتسبب موقف باسيل بحملة سياسية وإعلامية ضد كلامه. ومما قاله رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي في حينها، “تناسى النائب باسيل أن الدستور الحالي هو الذي أوصل فريقه إلى الحياة السياسية وسدة المسؤولية الأولى، وإذا كان الدستور نتناً وعفناً فحتماً الأمر ينسحب عليه وعلى فريقه”.

ويعتبر بعض القانونيين الذين واكبوا المداولات التي أدت إلى اتفاق الطائف أنه لا حاجة إلى التعليق على ما نسب إلى الرئيس عون بأن لا إلزامية لنتيجة الاستشارات التي يجريها من أجل تسمية رئيس الحكومة، لأنه هو بنفسه مارس عكس ما يقول. وقال وزير وقاضٍ سابق فضّل عدم ذكر اسمه، كان شارك في الصياغة القانونية الدستورية للتعديلات التي أُدخلت على الدستور اللبناني، “إذا كانت نتيجة الاستشارات غير ملزمة لرئيس الجمهورية، فلماذا سمى الحريري لتأليف الحكومة، على الرغم من أنه لم يكن يريده أن يؤلف الحكومة؟ والرئيس عون ألزم نفسه بالنتيجة أربع مرات خلال عهده حين كلّف 4 رؤساء حكومات على أساس إلزامية النتيجة، فكيف يتراجع عن ذلك الآن؟ وقبله أيضاً كيف تولى رؤساء سبقوه تسمية رؤساء الحكومات بناء لإلزامية نتائج الاستشارات؟ مضت أكثر من 30 سنة على تطبيق الإلزامية من دون أي اعتراض على ذلك”.

إلا أن تفسير معارضي الرئاسة لهذا الموقف من عون، أنه انزلاق نحو اعتراضه على بنود في اتفاق الطائف، لأن محيطه لا يتوقف عن الحديث عن أن هذا الاتفاق كبّل رئيس الجمهورية، الذي كان يتمتع قبل التعديلات على الدستور، بصلاحيات مطلقة، عندما كان ينص على أنه “يسمي الوزراء ويختار من بينهم رئيساً للحكومة”. ولذلك طرح باسيل وتكتل “لبنان القوي” النيابي الذي يرأسه اقتراح قانون تعديل دستوري يلزم كلاً من رئيس الجمهورية بمهلة شهر، لإجراء الاستشارات النيابية، ورئيس الحكومة المكلف بمهلة شهر أيضاً، لتشكيل الحكومة يعتذر من بعدها. فالنواب السُنّة وفي مقدمهم رئيس الحكومة الراحل صائب سلام رفض تقييد رئيس الحكومة بمهلة أثناء مداولات الطائف، بحجة أن رئيس الجمهورية قد يستفيد منها إذا كان على خلاف مع رئيس الحكومة، فيعرقل إعلان الحكومة إلى حين انتهاء المهلة، ويتخلص منه.

 

الراعي يخشى فتح الباب على التعديلات

ويضطر الرئيس عون بين الفينة والأخرى إلى نفي معارضته لاتفاق الطائف تفادياً للحملات الرافضة لهذا الخيار، لا سيما إصرار البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي على تطبيقه. وكان الراعي انتقد أكثر من مرة الاجتهادات الدستورية التي تبرر إعاقة تأليف الحكومة آخرها يوم الأحد 10 أبريل الحالي، قبل يومين من الحديث الذي نُسب لعون. إذ قال البطريرك بلهجة حادة، “حري بجميع المعنيين بموضوع الحكومة أن يكفوا عن هذا التعطيل من خلال اختلاق أعراف ميثاقية واجتهادات دستورية وصلاحيات مجازية وشروط عبثية، وكل ذلك لتغطية العقدة الأم، وهي أن البعض قدّم لبنان رهينة في الصراع الإقليمي الدولي”. فالراعي يتخوف حسب مصادر متصلة به أكدت لـ “اندبندت عربية” من أن يؤدي فتح باب التعديلات الدستورية على اتفاق الطائف أو الاجتهادات الظرفية إلى إثارة مطالب في غير مصلحة الموقع المسيحي في السلطة.

وحين سُئل عون عن رأيه بكلام الراعي الذي أجمع المراقبون على أن المقصود به فريق الرئاسة أجاب، “لا تعليق”. فهو يتجنب الاختلاف مع البطريرك كي لا ينعكس ذلك سلباً ضده في الأوساط المسيحية.

 

والحملات الانتقادية لرغبة الفريق الرئاسي في إدخال تعديلات على اتفاق الطائف تجعله يتأرجح بين الجموح الرافض له، وبين العودة إلى تأكيد التزامه به. ولهذا السبب فإن النائب باسيل عاد، بعدما وصف الدستور بـ”النتن والعفن”، فاستند في مؤتمر صحافي عقده في 14 مارس (آذار) الماضي، إلى مواد الدستور من أجل اتهام الحريري بخرقها في عملية تأليف الحكومة، وبأنه لا يحترم صلاحيات رئيس الجمهورية.

 

سامح شكري سأل وعون اتهم الحريري

أما عون فمع أنه لم يخفِ رفضه “الطائف” أمام جهات فضلت عدم الكشف عن هويتها، استغربت ما أبلغها به عند سماعها منه هذا الموقف ورغبته في تغيير الاتفاق، فإنها اعتبرت موقفه “خطيراً يعيد الأزمة اللبنانية إلى نقطة الصفر”، ويتسبب بمعارك سياسية تنسف الموازين التي جرى على أساسها إرساء الشراكة بين المكونات الطائفية والسياسية. ولذلك اضطر الرئيس اللبناني لتأكيد التزامه الطائف أمام وزير الخارجية المصري سامح شكري حين سأله الأخير عن حقيقة موقفه من الاتفاق “لأننا نسمع كلاماً من هنا وهناك حول رفضه والرغبة في تغييره”. وأفادت المعلومات أن عون نفى ذلك، واتهم الحريري بالترويج لأخبار من هذا النوع ضده في العواصم التي يزورها.

 

الانسداد السياسي الراهن في لبنان، الذي يتسبب باستمرار الفراغ الحكومي وطرح مسألة الصلاحيات بين الرئاسة الأولى ورئاسة الوزراء حول طريقة تأليف الحكومة، يدفع بعض العواصم الكبرى المتابعة عن كثب للواقع اللبناني إلى طرح إشكالية الحاجة إلى تغيير في النظام اللبناني، سواء في مؤتمر حوار وطني بين القادة السياسيين برعاية خارجية على غرار مؤتمر البرلمانيين في الطائف، أو في مؤتمر بين القوى السياسية الرئيسة، فإن هذه الجهات تعود فتتريث في التعمق بفكرة تغيير النظام، نظراً إلى الخشية من أن يتسبب بتعقيدات أكثر للحلول، وتفضل تأجيل البحث في أفكار من هذا النوع إلى ما بعد معالجة المشكلات الراهنة العاجلة اقتصادياً عبر تسوية على تأليف حكومة تنكب على الإصلاح المالي وضمان الشفافية، وترك القضايا الأخرى المتعلقة بمستقبل النظام اللبناني لمناقشتها على البارد، بدل من بحثها في ظل الأجواء الخلافية الساخنة الحالية.

 

وفي كل الأحوال هذا هو جوهر مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حين وضع خريطة الطريق الإصلاحية في الأول من سبتمبر (أيلول) الماضي، واستثنى منها مواضيع جوهرية وكبرى فضل تركها إلى ما بعد إجراء انتخابات نيابية في مايو (أيار) عام 2022 .

المصدر: Independent العربية

عن Editor1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *