ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الأحد في الصرح البطريركي الصيفي في الديمان، عاونه المطران سمير مظلوم والمونسنيور وهيب كيروز ومشاركة القيم البطريركي في الديمان الاب طوني الآغا، أمين سر البطريرك الاب هادي ضو، رئيس مزار سيدة لبنان الاب فادي تابت، حضر القداس راهبات الوردية في عبدين، وعدد كبير من المؤمنين وخدمت القداس جوقة رعية بقاعكفرا.
بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان: “يا ابن داود إرحمني” (متى 15: 22)، جاء فيها: “فوجئ يسوع، وهو يجتاز منطقة صور وصيدا، بامرأة كنعانية، من غير دينه وملته، تصرخ إليه باسمه البيبلي وتقول: يا ابن داود، ارحمني، إن إبنتي يعذبها شيطان (متى 15: 22). أجل، فوجئ الرب يسوع بهذه المرأة الكنعانية، غير اليهودية، تناديه باسمه الإيماني، الذي لم يناده به أحد قبلها. وبكلام آخر كانت تصرخ إليه “كالمسيح المنتظر، حامل الرحمة لبني البشر، وشافيهم من جميع عاهاتهم”. فلم يشأ يسوع إلا إظهار عظمة إيمانها، فأخضعها إلى محنة الإيمان، عبر الأسلوب الإسائي غير المألوف الذي استعمله معها.
فأولا لم يعرها أذنا صاغية. وثانيا، قال للتلاميذ أنه لم يأت للكنعانيين بل لبني ملته. وثالثا، في ما أتت وسجدت أمامه وكررت طلبها بإلحاح، وجه إليها إهانة أصابتها في صميم كرامتها، إذ قال لها أن خبز البنين لا يلقى لجراء الكلاب. أما هي فانتصرت بإيمانها الصامد والصبور، وأجابت: نعم يا سيدي، والكلاب أيضا تأكل من الفتات المتساقط عن مائدة أربابها وتحيا (متى 15: 27). فامتدح يسوع عظمة إيمانها وفاعليته، إذ أعلن على مسمع الجميع: عظيم إيمانك، يا امرأة، فليكن لك ما تريدين. ومن تلك الساعة شفيت ابنتها (متى 15: 28)”.
وتابع: “نلتمس اليوم، ونحن في محنة الإيمان، نعمة إلهية تشدد إيماننا وإيمان شعبنا، لكي نصمد في الرجاء ومحبة الله. فلا بد من أن “تنتهي ظلمة الليل وينبثق فجر الخلاص” علينا وعلى شعبنا ووطننا، كما ذكرنا قداسة البابا فرنسيس في ختام “يوم التفكير والصلاة من أجل لبنان”، في الأول من تموز الماضي. يسعدنا أن نحتفل معا بهذه الليتورجيا الإلهية. فأرحب بكم جميعا. وأدعو لكم بالخير والنعم، والإقتداء بصمود بطاركتنا الذين عاشوا في قعر هذا الوادي المقدس مع المطارنة والنساك والمؤمنين، على مدى أربعماية سنة، طيلة عهد العثمانيين. فقاوموا بالصلاة والصمود والتجذر في الأرض، مقاومة من دون أي سلاح ومساومة وارتهان سياسي. عاشوا في قعر هذا الوادي المقدس، في كرسي قنوبين، سعادة الحرية والإستقلالية والكرامة، إلى أن بلغوا مع المكرم البطريرك الياس الحويك إلى تجسيدها ثقافة في دولة لبنان الكبير الذي أعلن في أول أيلول 1920. نحتاح اليوم إلى إيمان المرأة الكنعانية، البعيدة كل البعد عن عقيدة يسوع وملته. فتخطت الإنتماء والعقيدة الحرفية إلى الإيمان بشخص يسوع الذي رأت فيه، دون سواه، القدرة على شفاء ابنتها. فكان صمودها على الرغم من الإمتحان المثلث الصعب، الضمانة والباب لشفاء إبنتها.فلتكن الشجاعة لدى الجميع، فيتساءلوا: “هل ديننا إيمان بعقيدة وكلمات، أم إيمان بشخص هو الله؟” فالفرق كبير! قاله الرب يسوع للمرأة السامرية: “العبادة الحقيقية لله هي بالروح والحق، لا هنا وهناك من الأمكنة (يو 4: 24). وأوضحه بولس الرسول بقوله: الحرف يقتل أما الروح فيحيي (2 كور 3:6)”.
أضاف: “هذا الفرق يقودنا إلى التمييز بين الديانة والطائفة. فالديانة هي العنصر الروحي الإيماني، أما الطائفة فهي الوجه الإجتماعي والتنظيمي لأتباع هذه أو تلك من الديانات. هذا الفرق وهذا التمييز هما في أساس فصل الدين عن الدولة في لبنان، والثقافة اللبنانية وفلسفة الميثاق الوطني والدستور؛ وهما في جوهر الكيان اللبناني والنظام وحياد لبنان الإيجابي الناشط. فلما ربط السياسيون عبادة الله بالمكان، وتخلوا عن العبادة بالروح والحق! ولما ارتبطوا بالحرف وخنقوا الروح، اختل عندنا الفصل بين الدين والدولة، وتشوه ميثاق العيش معا والمشاركة في الحكم والإدارة، وبلغنا إلى حالة البؤس والإنهيار والتفرقة، واللاثقة والتباغض والعداوة، والسعي إلى إقصاء الغير عن المشاركة في مائدة خدمة الخير العام والوطن. فانحرف لبنان عن ذاته الجوهرية رغما عنه. هذا الواقع المر والموجع لم يمس بعد قلوب المسؤولين وضمائرهم. فإنهم لم يغيروا شيئا في سلوكهم لا بعد مؤتمر باريس، ولا بعد ذكرى 4 آب التي هزت الرأي العام الداخلي والعالمي، ولا بعد تسخين جبهة الجنوب في هذه الأيام لحرف الأنظار عن قدسية ووهج قداس شهداء وضحايا انفجار المرفأ على أرضه، وقد استقطب أنظار العالم كله ومسهم في أعماقهم. ونسأل المسؤولين والسياسيين: كيف ستقنعون الشعب أنكم أهل لقيادته نحو الخلاص وكل يوم تزجونه في أزمة جديدة؟ كيف ستقنعون العالم أنكم أهل للمساعدة ولا تكترثون بالمؤتمرات الدولية المخصصة لإغاثة اللبنانيين والجاهزة لإنقاذ لبنان؟ بل كيف ستقنعون أنفسكم بأنكم كنتم على مستوى المسؤولية والآمال؟ هل فيكم شيء من الإنسانية لتشعروا مع الناس ببؤسهم؟”.
وقال: “السؤال الأكبر والأساس فهو: لماذا لا يتم تأليف حكومة بعد كل ذلك؟ أهو الخلاف على توزيع الحقائب الوزارية؟ فهذا عيب في الظروف العادية، ومخز في الظروف المأسوية التي يعيشها اللبنانيون، وأنتم لم تشعروا بها إلى الآن؟ تتصارعون على الوزارات، لكنكم تتصارعون على ما لا تملكون لأنها ملك الشعب. فابحثوا بالأحرى عن وزراء يليقون بالوزارات لا عن وزارات تؤمن مصالحكم. أم هو خلاف على الصلاحيات؟ فنقول: لا يحق لأي مسؤول أن يتذرع بنقص في صلاحياته لتغطية تأخير تأليف الحكومة، أو لأي آخر أن يتحجج بفائض صلاحيات ليفرض حكومة على الشعب. فالصلاحيات لم تكن يوما معيار القدرة أو العجز عن تشكيل حكومة. لذا، ندعو كل مسؤول يشعر بأنه يتمتع بصلاحيات إلى تحمل مسؤولياته وتأليف الحكومة وإنقاذ البلاد على الفور، والقيام بواجباته تجاه شعبه ووطنه”.
وختم الراعي: “إننا نقف إلى جانب أهلنا في الجنوب لنشجب توتر حالة الأمن. وقد سئموا -والحق معهم- الحرب والقتل والتهجير والدمار. وفيما ندين الخروقات الإسرائيلية الدورية على جنوب لبنان، وانتهاك القرار الدولي 1701، فإننا نشجب أيضا تسخين الأجواء في المناطق الحدودية انطلاقا من القرى السكنية ومحيطها. كما إننا لا يمكننا القبول، بحكم المساواة أمام القانون بإقدام فريق على تقرير السلم والحرب خارج قرار الشرعية والقرار الوطني المنوط بثلثي أعضاء الحكومة وفقا للمادة 65، عدد 5 من الدستور. صحيح أن لبنان لم يوقع سلاما مع إسرائيل، لكن الصحيح أيضا أن لبنان لم يقرر الحرب معها، بل هو ملتزم رسميا بهدنة 1949. وهو حاليا في مفاوضات حول ترسيم الحدود، ويبحث عن الأمن، والخروج من أزماته، وعن النهوض من انهياره شبه الشامل، فلا يريد توريطه في أعمال عسكرية تستدرج ردودا إسرائيلية هدامة. ونهيب بالجيش المسؤول مع القوات الدولية عن أمن الجنوب بالسيطرة على كامل أراضي الجنوب وتنفيذ دقيق للقرار 1701 ومنع إطلاق صواريخ من الأراضي اللبناني لا حرصا على سلامة إسرائيل، بل حرصا على سلامة لبنان. نريد أن ننتهي من المنطق العسكري والحرب واعتماد منطق السلام ومصلحة لبنان وجميع اللبنانيين. نسأل الله أن يستجيب صلاة اللبنانيين، وينعم علينا بالسلام وبقيامة لبنان. له المجد والتسبيح، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين”.