ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الأحد في الصرح البطريركي الصيفي في الديمان، عاونه المطران بيتر كرم والقيم البطريركي في الديمان الاب
طوني الآغا، وشارك فيه عدد من الآباء. حضر القداس جماعة من الراهبات وعدد من المؤمنين.
بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان: “الحصاد كثير والفعلة قليلون” (لو 10: 2)، قال فيها: “الكنيسة، برعاتها وجماعة المؤمنين والمؤمنات بالمسيح، مرسلة إلى العالم، وهي في حالة إرسال دائم لتعلن سر يسوع المسيح، بحيث يتمكن كل إنسان من معرفته، واللقاء به لقاء شخصيا وجدانيا. وهي بالتالي رسالة سلام، فالمسيح أمير السلام بحسب أشعيا النبي، والمسيح سلامنا بحسب بولس الرسول (أفسس 2: 14)، وبمعرفته ننال السلام بحسب بطرس هامة الرسل (2 بطرس 1: 2)”.
وقال: “إذ تنفتح أمام الكنيسة مساحات واسعة في العالم من مثل: الحياة الإجتماعية، والتربية والإقتصاد، والسياسة، والإدارة، وعالم القضاء، والإعلام وتقنياته، قال الرب يسوع لهؤلاء الذين يرسلهم من جيل إلى جيل: الحصاد كثير والفعلة قليلون. فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده (لو 10: 2). أجل، نحن نصلي اليوم من أجل إرسال مثل هؤلاء الفعلة أساقفة، وكهنة ورهبانا وراهبات ومؤمنين ومؤمنات ملتزمين، فيعملوا على متابعة الرسالة، حاملين إنجيل الملكوت إلى هذه المساحات، فتنطبع بثقافة الإنجيل. يسعدني أن نلتقي معا ونحتفل بهذه الليتورجيا الإلهية، بعد العودة من روما حيث مع أصحاب الغبطة البطاركة والسادة الأساقفة، رؤساء الكنائس في لبنان، شاركنا قداسة البابا فرنسيس في يوم التفكير بشأن لبنان، والصلاة من أجل السلام فيه. نشكر الله في هذه الذبيحة الإلهية على ذاك اليوم الغني بالخير والنعم، ونصلي كي يحقق الله أمنيات قداسته بشأن لبنان، وكي يمكننا من تحقيق برنامج العمل الذي رسمه لنا في كلمته التي ختم بها الصلاة المسكونية في بازيليك القديس بطرس، وشارك فيها العالم عبر الوسائل الإعلامية”.
وتابع: “إنجيل اليوم يذكر المسيحيين بأنهم يشاركون، بحكم معموديتهم والميرون، في وظيفة يسوع المسيح المثلثة: النبوية والكهنوتية والملوكية. الوظيفة النبوية توجب عليهم معرفة المسيح والانجيل وتعليم الكنيسة، واتخاذ مواقف إيمانية، وطبع الشؤون الزمنية بالقيم الروحية والخلقية. والوظيفة الكهنوتية تحملهم على المشاركة في سر القربان والأعمال الليتوجية المقدسة، وعلى الصلاة والعبادة، فيجعلون من أعمالهم وتضحياتهم وأفراحهم وأحزانهم قرابين روحية، يضمونها إلى قربان المسيح في قداس الأحد. والوظيفة الملوكية تفتح قلوبهم لمحبة المسيح المسكوبة بالروح القدس من أجل انتصار النعمة على الخطيئة، والخير على الشر، ويعملون جاهدين على محاربة الظلم والعداوة والنزاعات بإحلال العدالة والأخوة والسلام. الصلاة التي يدعونا إليها المسيح لإلتماس الفعلة لحصاده، تجد صداها في صلاتنا مع قداسة البابا في الفاتيكان، الخميس الماضي. الصلاة أساس أي حل لأن لبنان هو أصلا مشروع لقاء مع الله، ومأساته الحالية تعصى على الحلول العادية. حين كان البابا فرنسيس يتكلم، شعرنا أن حل القضية اللبنانية بمتناول اليد، وأن قوة من الأعالي دخلت علينا لتشفي بلدنا. فالصلاة ليست طريق الإنسان إلى الله فقط، بل هي طريقه إلى الآخر. ومتى حصل اللقاء بالآخر يكون الحل”.
وتوجه الى اللبنانيين، قائلا: “تعالوا، نلتقي من جديد، ونرمي جميع خلافاتنا العبثية وراءنا، ونمشي في النور نحو المستقبل؛ وسيكون لنا مستقبل عظيم. لقد دعانا البابا فرنسيس إلى الإيمان والرجاء والمحبة والندامة والغفران. نحن، نفتقد هذه القيم الروحية والإنسانية مثلما نفتقد الخبز والغذاء والدواء. لأن فيها نجد الحل والخلاص، ونجد خبز الحياة. كم كان قداسته متأثرا ومؤثرا، وهو يقول: يدفعنا القلق الشديد على لبنان، الذي أحمله في قلبي وأرغب في زيارته، إذ أراه يترك رهينة الأقدار أو رهينة الذين يسعون بدون رادع ضمير وراء مصالحهم الخاصة. لبنان بلد صغير كبير، وهو أكثر من ذلك: هو رسالة عالمية، رسالة سلام وأخوة ترتفع من الشرق الأوسط.
أما نحن فكان كل لبناني حاضرا معنا. ما نطقنا بكلمة ولا أدلينا برأي إلا وأخذنا في الاعتبار مصلحة جميع اللبنانيين. لقد صار واضحا أن مسار حل القضية اللبنانية، ومصير الوطن الرسالة، يمر حتما بلقاء اللبنانيين على وحدة دولة لبنان في ظل الديمقراطية والتعددية واللامركزية والحياد الإيجابي الناشط ووحدة القرار الوطني والانتماء العربي وتنفيذ جميع القرارات الدولية. وصار واضحا مدى حاجة لبنان في ظل هذا التمزق والانهيار إلى مساعدة الأشقاء والأصدقاء عبر مؤتمر دولي يخرج لبنان من أزمته المصيرية. لقد وجه قداسة البابا فرنسيس نداءات بصيغة الواجب، بالتوالي: إلى كل من بيده السلطة: أن يضع نفسه نهائيا وبشكل قاطع في خدمة السلام، لا في خدمة مصالحه الخاصة. كفى أن يبحث عدد قليل من الناس عن منفعة أنانية على حساب الكثيرين! كفى أن تسيطر أنصاف الحقائق على آمال الناس!. كفى استخدام لبنان والشرق الأوسط لمصالح ومكاسب خارجية! يجب إعطاء اللبنانيين الفرصة ليكونوا بناة مستقبل أفضل، على أرضهم وبدون تدخلات لا تجوز. ودعا القادة السياسيين لإيجاد حلول عاجلة ومستقرة للأزمة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية الحالية”.
وتابع: “تميزتم على مر القرون، حتى في أصعب اللحظات، بروح المبادرات والاجتهاد. أرزكم العالي، رمز بلدكم، يذكر بغنى وازدهار تاريخكم الفريد. ويذكر أيضا أن أغصانه العالية تنطلق من جذور عميقة. تأصلوا في جذور أجدادكم، وأحلام السلام. فلا تيأسوا، ولا تفقدوا روحكم، ابحثوا في جذور تاريخكم عن الرجاء، لتزهروا وتزدهروا من جديد”.
وإلى المسيحيين: “معكم، نريد اليوم أن نجدد التزامنا بناء مستقبل معا، لأن المستقبل سيكون سلميا فقط إذا كان مشتركا. لا يمكن أن تقوم العلاقات بين الناس على السعي وراء المصالح والامتيازات والمكاسب الخاصة للبعض. لا، إن الرؤية المسيحية للمجتمع تحمل على الاقتداء بعمل الله في العالم. فهو أب ويريد الوئام بين الأبناء. نحن مدعوون لأن نكون زارعي سلام وصانعي أخوة، وألا نعيش على أحقاد الماضي والتحسر، وألا نهرب من مسؤوليات الحاضر، وأن ننمي نظرة رجاء في المستقبل. نحن نؤمن أن الله يدلنا على طريق واحد فقط في مسيرتنا: هو طريق السلام. لهذا نؤكد لإخوتنا وأخواتنا المسلمين ومن الديانات الأخرى الانفتاح والاستعداد للتعاون لبناء الأخوة وتعزيز السلام. ليس في السلام غالبون ومغلوبون، بل إخوة وأخوات، يسيرون من الصراع إلى الوحدة، رغم سوء التفاهم وجراح الماضي. وبهذا المعنى، أتمنى أن تنجم عن هذا اليوم مبادرات عملية في إطار الحوار والالتزام والتضامن”.
وتوجه الى الشباب قائلا: “أذكركم بكلام الشاعر جبران خليل جبران: “وراء ستار الليل الأسود هناك فجر ينتظرنا. فأنتم مصابيح تضيء في هذه الساعة المظلمة. ليضئ على وجوهكم أمل المستقبل. إن ولادة لبنان تكون على يدكم. لننظر إلى آمال وأحلام الشباب. ولننظر إلى الأطفال: عيونهم مشعة، ولكنها مليئة بالدموع، وتهز الضمائر وتصحح المقاصد”.
وإلى النساء: “تتبادر إلى ذهني أولا سيدتنا مريم العذراء والدة الجميع، التي تعانق بنظراتها، من تلة حريصا، كل الوافدين إلى لبنان من البحر الأبيض المتوسط. يداها مفتوحتان نحو البحر ونحو العاصمة بيروت لتستقبل آمال الجميع. النساء هن والدات الحياة والأمل للجميع، يجب أن يحظين بالاحترام والتقدير والمشاركة في صنع القرار في لبنان”.
وإلى المسنين: “فليعطونا معنى التاريخ، وليعطونا القيم الأساسية من أجل المضي قدما. إن لديهم الرغبة في أن يحلموا: فلنصغ إليهم، حتى تتحول أحلامهم فينا إلى نبوءة”.
وإلى اللبنانيين المنتشرين: “ضعوا أفضل الطاقات والموارد المتوافرة لديكم في خدمة وطنكم”.
وأخيرا إلى أعضاء المجتمع الدولي: “وفروا بجهد مشترك، للبنان الظروف المناسبة حتى لا يغرق، بل ينطلق في حياة جديدة. سيكون ذلك خيرا للجميع”.
وختم الراعي: “إن كلمة قداسة البابا فرنسيس في ختام يوم التفكير بشأن لبنان، والصلاة من أجل السلام فيه، ونداءاته تشكل لنا جميعا خريطة الطريق للخروج من مختلف الأزمات التي نعاني منها. أعاننا الله بنعمته على السير بها، لمجده تعالى وخلاص لبنان وخير جميع اللبنانيين. فله الشكر والتسبيح: الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين”.