ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الاحد في بازيليك سيدة لبنان – حريصا لمناسبة الذكرى السنوية الثامنة على تكريس لبنان لقلب مريم الطاهر، عاونه فيه المطارنة أنطوان نبيل العنداري، حنا علوان وشكرالله نبيل الحاج، أمين سر البطريرك الاب هادي ضو، رئيس مزار سيدة لبنان الاب فادي تابت، ومشاركة السفير البابوي المونسينيور جوزيف سبيتاري، وممثلين عن الطوائف المسيحية ولفيف من المطارنة والكهنة والراهبات، في حضور حشد من الفاعليات والمؤمنين من مختلف المناطق التزموا الإجراءات الوقائية.
بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان “الإله القدير نظر إلى تواضع أمته”، قال فيها: “في هذا النشيد النبوي الذي أطلقته مريم من بيت أليصابات، أعلنت فضيلتين متكاملتين جملتا نفسها وحياتها: التواضع والوداعة. فبعد تطويبة أليصابات لها على إيمانها، قالت مريم: تعظم نفسي الرب …لأنه صنع في العظائم … ناظرا إلى تواضع أمته (لو 1: 48). هاتان الفضيلتان هما الأساس الذي ترتكز عليه جميع الفضائل الروحية والأخلاقية والإنسانية، وتجسدان المحبة التي قال عنها بولس الرسول أنها لا تتباهى ولا تنتفخ ولا تحتد (1 كور 13: 4). وتزينان النفس بروح الطاعة لله وللكنيسة.
نلتمس هاتين الفضيلتين من قلب يسوع الأقدس الذي يدعونا كل يوم، طيلة هذا الشهر المكرس لتكريمه وعبادته: تعالوا إلي وتعلموا مني: إني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم (متى 11: 29). كما نلتمسها من قلب مريم الطاهر. إن القلب هو مركز الحب وينبوعه”.
وتابع: “نجتمع اليوم في بازيليك سيدة لبنان-حريصا، لنكرس لقلب مريم الطاهر، للمرة التاسعة، وطننا لبنان وبلدان الشرق الأوسط، عملا بتوصية سينودس الأساقفة الروماني الخاص بالشرق الأوسط الذي عقد في شهر تشرين الأول 2012 برئاسة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، أطال الله بعمره.
فنسألها أن تسكب في قلوب شعب وطننا وشعوب بلدان هذه المنطقة المشرقية التي على أرضها أعلن الله ذاته إلها واحدا بثلاثة أقانيم، آب وابن وروح قدس، الله المحبة (1يو 4: 8)؛ وعليها صار الإبن-الكلمة إنسانا، وافتدى خطايا البشرية بآلامه وموته، وبث الحياة الإلهية في المؤمنين بقيامته، وجعل ثمار الفداء والخلاص فاعلة في النفوس بالروح القدس؛ ومن هذه المنطقة انطلقت الكنيسة بدافع من الروح القدس تحمل بشرى الإنجيل السارة إلى جميع الشعوب، وتشهد للمسيح الرب حتى الإستشهاد، محافظة على وديعة الإيمان، وناقلة إياها إلى شعوب هذا الشرق المتألم الذي جعلوه أرض النزاعات والحروب، بدلا من أرض الإخاء والسلام. التواضع وقوف أمام عظمة الله وقداسته، وإدراك لمحدودية الذات وضعفها وأخطائها وسرعة عطبها. فلنتذكر كيف رذل الله صلاة الفريسي في الهيكل وهو يتباهى بذاته وكأنه يريد من الله شهادة مديح لحسن سيرته، وكيف قبل صلاة العشار الذي وقف عند باب الهيكل يقرع صدره ويقول: اللهم ارحمني أنا الخاطي (راجع لو 10: 14-18). القديس بولس الرسول يدعونا لنقتدي بأخلاق المسيح “الذي، مع أنه على مثال الله، لم يعد مساواته لله مكسبا، بل أفرغ ذاته متخذا صورة عبد، وصار على مثال البشر، وواضع نفسه، وأطاع حتى الموت، موت الصليب (فيل 2: 5-8). فلنقتد بتواضع أمنا مريم العذراء التي أجابت الملاك: أنا أمة الرب. فليكن لي بحسب قولك (لو1: 38). وبتواضع يوحنا المعمدان الذي قال عن يسوع: علي أن أنقص، وعليه أن ينمو (يو 3: 13).التواضع هو أساس الفضائل، ودواء الكبرياء، التي هي أم جميع الرذائل؛ فالقدير بدد المتكبرين بأفكار قلوبهم كما تنبأت مريم، وأنزل الأعزاء عن الكراسي، ورفع المتواضعين (لو 1: 51-52). يجب التنبه إلى الكبرياء المغلف بثوب التقوى والتواضع المزيف الخارجي والمسلكي، والظاهر في التمايز عن الغير وجعل الذات قدوة يقيس عليها الانسان الآخرين. فالمتواضع الحقيقي هو الذي يطيع الله في وصاياه ورسومه وتدابيره وتجليات إرادته، ويطيع تعليم الكنيسة، بحسب أمر الرب يسوع: من سمع منكم، سمع مني (لو 10: 16).الوداعة هي فضيلة بها نحتمل بسكينة شدائد الحياة ومحنها وصعوباتها، مقتدين بأمنا مريم العذراء التي قالت “نعم” لإرادة الله يوم بشارة الفرح، وقالتها أيضا بالألم والخضوع للإرادة الإلهية في ذروة آلامها مع آلام ابنها يسوع وموته على الصليب. كل وداعة تخضع لإرادة الله، كيفما تجلت، ولتعليم الكنيسة، إنما تعطي ثمارها. فمريم العذراء بقبول إرادة الله في البشارة، أصبحت أم يسوع التاريخي، الكلمة الذي أخذ منها جسدا بشريا؛ وبقبول الإرادة الإلهية على أقدام الصليب أصبحت أم يسوع السري الذي هو الكنيسة.
ويسوع بوداعته قبل إرادة الآب: الآلام والموت من أجل فداء خطايا البشر، فأعطى الحياة الجديدة للعالم، وأصبح المخلص لكل إنسان، ورفعه الله وأعطاه اسما يفوق جميع الأسماء، لكي تجثو له كل ركبة في السماء والأرض ويعترف به كل لسان بأن المسيح هو الرب (فيل 2: 8-11). كما بفضيلتي التواضع والوداعة تسلم علاقة الإنسان مع الله، كذلك بهما تسلم علاقته مع كل الناس: في العائلة والمجتمع والكنيسة والدولة.لو تحلى المسؤولون السياسيون وأرباب السياسة عندنا بهاتين الفضيلتين، لسكنت المحبة قلوبهم، ولتجردوا من مصالحهم، وتصالحوا مع السياسة والشعب والدولة، ولسلمت العلاقات فيما بينهم، ولما أوصلوا البلاد إلى هذا الإنحدار من البؤس السياسي والإقتصادي والمالي والمعيشي والإجتماعي، ولما فكفكوا مؤسسات الدولة وأجهزتها ومقدراتها وتقاسموها واستباحوها”.
وفي الموضوع السياسي، قال: “يحاول المسؤولون في هذه الأيام العصيبة إنقاذ أنفسهم ومصالحهم لا إنقاذ الوطن. ويتصرفون وكأنه لا يوجد شعب، ولا دولة، ولا نظام، ولا مؤسسات، ولا اقتصاد، ولا صناعة، ولا تجارة، ولا فقر، ولا جوع، ولا بطالة، ولا هجرة. يتصارعون في ما بينهم كأن السياسة هي تنظيم الاتفاق والخلاف في ما بينهم، لا تنظيم حياة المجتمع، وإدارة شؤون المواطنين، والحفاظ على المؤسسات الدستورية، وتوفير الأمن والاستقرار والتعليم والضمانات والعزة والكرامة. لا يعنيهم الشعب الذي ما عاد يحتمل الذل والقهر والعذاب، لا أمام المصارف والصرافين، ولا أمام محطات الوقود والأفران، ولا أمام الصيدليات والمستشفيات، ولا أمام شركات السفر التي فرض عليها أن تسعر، خلافا للقانون، بطاقات السفر بالدولار نقدا. وما عاد هذا الشعب يحتمل السكوت على جريمة تفجير مرفأ بيروت وقد مضت عشرة أشهر على حدوثها. ومع هذا كله، برزت بارقة أمل صغيرة في اليومين الماضيين بتجاوب المصارف مع قرار المصرف المركزي ببدء تسديد قليل من أموال المودعين تدريجا. أمام هذا الواقع نتساءل: هل وراء الأسباب الواهية لعدم تأليف الحكومة، نية عدم إجراء انتخابات نيابية في أيار المقبل، ثم رئاسية في تشرين الأول، وربما نية إسقاط لبنان بعد مئة سنة من تكوينه دولة مستقلة، ظنا منهم أنهم أحرار في إعادة تأسيسه من جديد، متناسين أنه أعرق وطن، وأبهى أمة، وأجمل دولة عرفها الشرق الأوسط والعالم العربي؟ لكننا، لن نؤخذ بالواقع المضطرب والقوة العابرة. فنحن شعب لا يموت ولو أصبنا في الصميم. ولذا، لن نسمح لهذا المخطط أن يكتمل. لن نسمح بسقوط أمتنا العظيمة. لن نسمح بتغيير نظام لبنان الديمقراطي. لن نسمح بتزوير هوية لبنان. لن نسمح بتشويه حياة اللبنانيين الحضارية. لن نسمح بالقضاء على الحضارة اللبنانية. لن نسمح باستمرار توريط لبنان في صراعات المنطقة. فعندما لم يتم احترام: لا شعار لا شرق ولا غرب، ولا التحييد، ولا حتى النأي بالنفس، طرحنا إعلان نظام الحياد الناشط بكل أبعاده الدستورية. وعندما بات الإنقاذ الداخلي مستحيلا، طالبنا بمؤتمر دولي خاص بلبنان برعاية منظمة الأمم المتحدة”.
وختم الراعي: “في حالتنا الإنسانية البائسة نتوجه إلى منظمة الأمم المتحدة كي تتدخل لإنتشال لبنان من الإنهيار والإفلاس. ونناشد منظمة الصحة العالمية أن تضع يدها على الواقع الصحي في لبنان وتستجيب لحاجاته من دواء ومواد طبية. وفيما نقدر للدول الصديقة، مساعدتها الجيش الذي يشكل صمام الأمان للبنان، خصوصا في الأزمنة العصيبة، نتمنى على هذه الدول الالتفات نحو الشعب أيضا ليبقى صامدا إلى جانب جيشه. أما في الداخل فلا بد من تنظيم الشعب مناطقيا. ومن أن جميع المؤسسات العامة والخاصة تنتظم في ورشة عمل لإنقاذ المجتمع. إننا نكل إلى قلب مريم العذراء الطاهر، سيدة لبنان، وطننا وبلدان الشرق الأوسط، مع كل ما نحمل من آمال وأمان، راجين أن ترفعها إلى العرش الإلهي، ونحن نرفع نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين”.