ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الاحد على مذبح كنيسة الباحة الخارجية للصرح البطريركي في بكركي “كابيلا القيامة” عاونه فيه المطرانان الياس سليمان وبيتر كرم، أمين سر البطريرك الاب هادي ضو، المرشد العام لرابطة أخويات لبنان الاب ادمون رزق، بمشاركة عدد من المطارنة والكهنة، في حضور رابطة أخويات لبنان برئاسة المحامي جوزيف عازار، عائلة المرحوم بيار الزغندي وعدد من المؤمنين التزموا الإجراءات الوقائية.
بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان “يا معلم أن أبصر” (مر 10: 51)، قال فيها: “1.عندما سأل يسوع أعمى أريحا: ماذا تريد أن أصنع لك، أجاب بإيمان ومن دون أي تردد: يا معلم، أن أبصر (مر 10: 51). فقال له يسوع: أبصر، إيمانك خلصك. فأبصر ومشى معه، وهو الطريق المؤدي إلى الحقيقة والحياة. وهكذا أثبت يسوع أنه نور العالم (را يو8: 12)، وأن من يتبعه لا يتعثر في الظلام. يسوع هو نور العقول والقلوب والضمائر، نور يمنحنا البصيرة الداخلية التي جعلت أعمى العينين بصيرا حقا، فأدرك أن يسوع الناصري الذي يمر هو بالحقيقة المسيح إبن داود، حامل رحمة الله إلى البشر. ولهذا راح يسترحمه بأعلى صوته: يا يسوع، إبن داود، إرحمني (مر 10: 46). فلنلتمس نحن أيضا من المسيح الرب هذه البصيرة الداخلية التي تميز بها أعمى أريحا، فاستحق الشفاء من عمى عينيه المنطفئتين.
2. يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهية التي نحيي فيها الذكرى السبعين لتأسيس رابطة الأخويات. فنوجه التحية للمشرف عليها سيادة أخينا المطران إلياس سليمان، ولمرشدها العام الأب المدبر إدمون رزق المريمي، ورئيس الرابطة الأستاذ جوزف عازار وأعضاء اللجنة الإدارية ورؤساء اللجان المركزية للفرسان والطلائع والشبيبة، ورؤساء اللجان الإقليمية للأخويات الأم والفئات الأخرى، من21 إقليما من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب، كما نحيي الكهنة المرشدين المحليين والاقليميين. نشكر الله على الأخويات بكل فئاتها وعلى حضورها الروحي والراعوي والإجتماعي الفاعل في الرعايا والأبرشيات، ونتمنى لها دوام الإزدهار، وتقديس أعضائها.
نذكر في المناسبة أن الأخويات المريمية إنطلقت من روما مع الأباء اليسوعيين في المعهد الروماني سنة 1563، ووصلت إلى الشرق ولبنان سنة 1644، فكانت أول أخوية لبنانية في العام 1653 في عينطورة كسروان. أما رابطة الأخويات فأسسها سنة 1951 المرحوم الأب جورج خوري اليسوعي، بهمة رئيس أخوية سيدة النجاة بكفيا المرحوم يوسف أبو هيلا وأعضاء الأخوية، وببركة المثلث الرحمة البطريرك أنطون عريضة. وقد جمعت كل الأخويات المنتشرة في المناطق اللبنانية. يبلغ عدد المنتسبين إلى الأخويات بكل فئاتها ما يزيد على 70 ألفا منتشرين في كل المدن والبلدات اللبنانية.
ويسعدنا أيضا أن نحتفل في بداية اليوم الأول من فصل الربيع، بعيد الأمهات. فنهئهن بالعيد، ونتمنى لهن السعادة والعمر الطويل وتقديس الذات من خلال ممارستهن واجبات الأمومة.
وبصلاة الرجاء نذكر المرحوم المهندس بيار الزغندي العزيز على قلبنا، الذي ودعناه بكل أسى منذ ثلاثة أشهر، مع زوجته السيدة نوال رشدان وإبنيه وإبنتيه وشقيقيه وعائلاتهم. فإنا نحيي حضورهم معنا اليوم، ونصلي من أجل راحة نفسه، وعزائهم الإلهي.
3. أعمى أريحا الجالس على قارعة الطريق يرمز إلى الذين لا يعنون شيئا للمجتمع المترف بالمادية والإستهلاكية والأنانية. فيهمشون ويهملون ويقصون عن الحياة العامة، أمثال الفقراء والمعوقين والمضطهدين، بل وأيضا أمثال المتحررين من التبعية والإستقواء والإستعباد.
لكني أود أن أحيي وأشكر كل الذين يعتنون بهؤلاء الإخوة والأخوات، ويسخون من مالهم ومقتناهم ووقتهم في سبيل خدمتهم. وأخص بالشكر أيضا الأبرشيات والرهبانيات والمؤسسات الكنسية والخيرية التي تضمد الجراح وتؤمن المساعدات. ولا ننسى الدول التي ما زالت ترسل لشعبنا وللمؤسسات المساعدات بروح التضامن الإنساني. فلهم جميعا جزيل شكرنا.
ومع ذلك، فيما يتفاقم عدد الفقراء في لبنان، المحرومين لقمة العيش، وقد فاقوا المليون، بالإضافة إلى مئات الآلاف الذين هم تحت خط الفقر، والشعب المهدد بالمجاعة، أجدد الدعوة إلى التضامن الإنساني من قبل الدول العربية والغربية الصديقة، كي يساعدوا ماديا وإنسانيا الشعب اللبناني الذي هو ضحية الطبقة السياسية الحاكمة. ليس الشعب اللبناني خصمكم، بل صديقكم. لقد قدم لبنان الكثير للعربِ وللعالم، فلا يجوز أنْ تجافوه وتقاطعوه وتقاصوه وتربطوا مساعدة الشعب ــــ وأقول الشعب تحديدا ــــ بمصيرِ الحكومةِ أو الرئاسةِ أو السلاحِ غير الشرعي أو أيِ قضيةٍ أخرى. أفْصلوا السياسة عن الإنسانية. إن الانكفاء السياسي لا يبرِر الإحجام عن تقديمِ المساعداتِ الضرورية للناس مباشرة. ماذا يستفيد أصدقاء لبنان، كل أصدقاءِ لبنان، وماذا يستفيد العرب، كل العرب، وبخاصةٍ عرب الاعتدال والانفتاح، وعرب حوارِ الأديان والحضارات من سقوط لبنان؟
4. كان برطيما أعمى العينين المنطفئتين لكنه كان بصيرا، ربما أكثر من التلاميذ والجمهور الكبير. فبصيرته الداخلية ظهرت في صرخة الإيمان ومناداة يسوع باسمه البيبلي: “يا يسوع إبن داود، إرحمني”. كلها كلمات من الكتاب المقدس. “فيسوع هو إبن داود”، المسيح الآتي، الملك الجديد، الذي تنبأ عنه آشعيا: “بأنه أرسل لينادي للعميان بالبصر”. وهي نبوءة طبقها يسوع على نفسه في مجمع الناصرة (راجع لو 4: 16-21). أما كلمة “إرحمني” فتعبر عن أن المسيح هو الذي يحمل إلى العالم رحمة الله، أي رحمة الشفاء من الخطيئة وظلمات الحياة والضياع، ومن ظلمات الحرمان والأنانية والظلم والعداوة، ومن ظلمات الحقد والبغض والأطماع والنزاعات والحروب.
وفي الواقع، عندما سأله يسوع وهو المستعطي حسنة مادية: “ماذا تريد أن أصنع لك؟” أجاب على الفور ومن دون تردد: “يا معلم، أن أبصر!” فقال له الرب: “أبصر! إيمانك خلصك!” فأبصر وتبعه في الطريق (مر 10: 51-52).
5. كم نحن بحاجة إلى أن نتوسل إلى المسيح كل يوم، مثل إلحاح الأعمى، وأن نستجدي نعمته: “يا معلم، أن أبصر” (10: 51)، النعمة التي تضع الحرارة في قلبنا البارد، وتنعش حياتنا الفاترة والسطحية (راجع البابا فرنسيس: فرح الإنجيل، 264)، وتخرجنا من المواقف المتحجرة، والأفكار المسبقة والأحكام الباطلة، وحالات العداوة والنزاع والإنقسام.
عندما شفي هذا الأعمى تبع يسوع في الطريق، على ضوء شخصه وتعليمه وأفعاله. تعلمنا آية شفائه، في ضوء تعليم البابا فرنسيس في فرح الإنجيل: أن معرفة يسوع ليست كعدم معرفته، وأن السير معه ليس كالسير تلمسا على غير هدى … وأن محاولة بناء العالم بإنجيله ليست كالعمل على بنائه بعقلنا. إننا نعرف جيدا أن الحياة معه تصبح أكثر امتلاء، ويسهل إيجاد معنى لكل شيء” (المرجع نفسه، الفقرة 266).
6. كم نتمنى لو أن المسؤولين السياسيين عندنا، المؤتمنين على مصير وطننا وشعبنا وإرثنا الوطني النفيس، يلتمسون من الله نور البصيرة الداخلية، لينظروا إلى أية حالة من البؤس أوصلوا شعبنا بفسادهم ومصالحهم الشخصية وتقاسمهم المال العام، وتعطيلهم عمل القضاء وأجهزة الرقابة وتسييسها، وارتباطاتهم الخارجية، وإلى أي إنهيار وتفكك أوصلوا الدولة بسوء إدائهم!
7. فحرصا منا على ولوج الحل الحقيقي نشجع جميع المبادرات والمساعي على خط تأليف الحكومة، ونأمل أن يسفر اللقاء غدا الإثنين بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف عن نتيجة إيجابية، فيولفا بعد طول إنتظار، وشمولية إنهيار، حكومة إنقاذ تضم اختصاصيين مستقلين ووطنيين، حكومة مواجهة الوضع المالي والنقدي والمعيشي، تجري الإصلاحات، وتعزز الإقتصاد الليبرالي الحر والإنتاجي، وتصحح الثغرات في صلاحيات الوزراء فلا يتقاعسون عن تنفيذ القانون، ولا يمتنعون عن تطبيق قرارات مجلس الوزراء، ومجلس شورى الدولة، حماية لمصالح الدولة والمواطنين. إننا ننتظرها حكومة مبادئ وطنية لا مساومات سياسية وترضيات على حساب الفعالية. ونأمل من الرئيسين أيضا أن يخيبا أمل المراهنين على فشلهما، فيقلبا الطاولة على جميع المعرقلين، ويقيما حائطا فاصلا بين مصلحة لبنان وبين مصالح الجماعة السياسية ومصالح الدول، كفى إقتراحات جديدة وشروط تعجيزية غايتها العرقلة والمماطلة!
إن تأليف حكومة للبنان فقط، وللبنانيين فقط، لا يستغرق أكثر من أربع وعشرين ساعة. لكن إذا كان البعض يريد تحميل الحكومة العتيدة صراعات المنطقة ولعبة الأمم والسباق إلى رئاسة الجمهورية وتغيير النظام والسيطرة على السلطة والبلاد، فإنها ستزيد الشرخ بين الشعب والسلطة، وستؤدي إلى الفوضى، والفوضى لا ترحم أحدا بدءا بمفتعليها.
8. ولأننا نتمسك بالسلام الوطني وبوحدة لبنان تحديدا، نطرح الحياد بثقة وإيمان، وسنواصل العمل لتحقيقه بإرادة داخلية وبدعم عربي ودوليٍ يتجسد في عقد مؤتمر دولي خاص بلبنان. معظم اللبنانيين يريدون الحياد بمفهومه الصحيح، لأنه لصالح الجميع، ولأنه يجمعنا، فيما الانحياز يفرقنا. والحياد هو الحل الوحيد لمنع جميع أشكال التقسيم والانفصال والحكم الذاتي، ولتحقيق سيادة الدولة داخليا وخارجيا. أما المؤتمر الدولي الخاص بلبنان فالغاية منه شفاء لبنان من معاناته الناتجة عن نقص وتحوير في تطبيق وثيقة الوفاق الوطني، والدستور، وميثاق العيش المشترك، أساس شرعية السلطة في لبنان (مقدمة الدستور “ي”).
9. نسأل الله أن يفتح بصائرنا الداخلية، لنحسن رؤية السير البناء في حياتنا الشخصية والوطنية، رافعين نشيد المجد والتسبيح للآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين”.