أخبار عاجلة

الراعي طالب بطرح قضية لبنان في مؤتمر دولي خاص: شعبنا سينتفض من جديد في الشارع سيثور ويحاسب

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس أحد تذكار الموتى في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، بمشاركة لفيف من المطارنة والكهنة.

 

بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان “بيننا وبينكم هوة عظيمة”، قال فيها: “1.تقيم الكنيسة في هذا الأحد تذكار الموتى المؤمنين وتصلي طيلة الأسبوع لراحة نفوسهم. إن أمواتنا يحتاجون إلى صلواتنا وأعمال المحبة والرحمة لكي يخفف الله من آلامهم المطهرية ويشركهم في نعيمه السماوي. نعني بالموتى المؤمنين أولئك الذين عاشوا في صداقة الله ومحبته المتجلية في أعمال المحبة تجاه الفقراء والمعوزين لكي يعيشوا حياة كريمة ويحققوا ذواتهم في مسيرتهم التاريخية على الأرض. أما الموتى غير المؤمنين فهم الذين لم يريدوا أن يتعرفوا على الله ووصاياه وإنجيله، فأمسكوا يدهم وقلبهم عن مساعدة الفقير، مثل ذاك الغني الذي يتكلم عنه إنجيل اليوم. فخلق هوة بينه وبين لعازر المسكين المنطرح أمام دارته، وعند موتهما كان نصيب الغني في جهنم النار، ولعازر في راحة السماء، وكانت كلمة إبراهيم للغني المستعطي الرحمة: “بيننا وبينكم هوة عظيمة” ( لو16/ 26).

2. فيما نقيم معكم هذه الليتورجيا الإلهية وصلاة وضع البخور لراحة نفوس موتانا وسائر الموتى المؤمنين، ملتمسين لهم الراحة الأبدية في مجد السماء والعزاء لعائلاتهم، نواصل صلواتنا من أجل شفاء المصابين بوباء كورونا، وإبادة هذا الوباء الذي بات يهدد الجميع على وجه الكرة الأرضية، ويشل كل حركة، ويُنزل الخسائر المادية الجسيمة، ويَزيد من أعداد الفقراء والمحرومين من أبسط سبل العيش، ويبسط حالات الجوع على الملايين من سكان الأرض، ما يجعلنا نصرخ من صميم قلوبنا: “إرحم يا رب، إرحم شعبك! ولا تسخط علينا إلى الأبد.

3.يولد الإنسان في هذه الدنيا كهبة من الله للوجود. لكنه وجود موقت غايته معرفة الله والحقيقة، وتحقيق الذات، وتهيئة العبور بالموت إلى الوجود الأبدي.

في المثل الإنجيلي، مشكلة الغني أنه لم يهيىء وجوده الأبدي، فتعلق قلبه في الوجود التاريخي منغلقا على كل نور يأتيه من عند الله. لم يهلك بسبب غناه، فالغنى عطية من الله وبركة، ويريده لكل إنسان. ولكن مشكلته أنه وضع سعادته في غناه: فعاش في الطمع برغبة التملك اللامحدود لخيرات الأرض؛ وعاش في الجشع بالهوى المفرط والمتفلت للثروة وقدرتها (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 2536)؛ وعاش في الأنانية ممسكا قلبه ويده عن مساعدة لعازر الفقير. فرذله الله، لأن الإمتناع عن إشراك الفقراء في خيراتنا الخاصة هو سرقة حقوقهم واستلاب حياتهم والخيرات التي هي لهم (القديس يوحنا فم الذهب)؛ إن مساعدة الفقراء واجب من باب العدالة. (راجع المجمع الفاتيكاني الثاني رسالة العلمانيين، 8).

4. أما لعازر الفقير فلم ينل الخلاص لأنه فقير. إن الله كلي الجودة لا يريدنا فقراء بمعنى العوز والحرمان، بل يريدنا فقراء بالروح، غير متعلقين بأموال هذه الدنيا حتى عبادتها، ومتجردين، وكأننا “لا نملك شيئا فيما نحن نملك كل شيء” (2كور 6/ 10). نال لعازر الخلاص لأنه ارتضى حالة الفقر، وصبر على محنته، وحمل صليبه دونما اعتراض، واتكل على عناية الله، وعاش في تواضع؛ ولم يشته مال الغني، رافضا اللجوء إلى العنف والسرقة والإحتيال والتعدي الظالم، عملا بوصايا الله؛ وكان حرا من شهوة العين(1يو2/ 16) نقي القلب وصافي النية. وهذا ما أورثه الملكوت السماوي.

5. نردم الهوة عندما نعمل بمبدأ أن كل خيرات الطبيعة وكل كنوز النعمة هي ملك مشترك لكل الجنس البشري من دون تمييز (البابا لاوون الثالث عشر، الشؤون الحديثة 21). وهذا واجب على الأفراد والمؤسسات في الكنيسة والمجتمع، وعلى الحكام والدول. المطلوب بناء عالم يستطيع فيه كل إنسان أن يعيش حياة بشرية كريمة بكل معناها الروحي والمادي، والثقافي والإجتماعي، دونما تمييز في العرق والدين والجنس، … عالم يستطيع فيه لعازر أن يجلس إلى مائدة الغني (البابا القديس بولس السادس، ترقي الشعوب 47).

6. بتطبيق المثل الإنجيلي على واقع حالنا في لبنان، السلطة السياسية تتمثل بذاك الغني، والشعب بلعازر المسكين. يوجد بين الفريقين هوة عظيمة. فأصحاب السلطة في مكان مع مصالحهم وحساباتهم وحصصهم، والشعب في مكان آخر مع عوزهم وحرمانهم وجوعهم. كنا نعول بثقة على تأليف حكومة مهمة وطنية انقاذية، كبداية محاولة لردم الهوة. لكن الآمال خابت بسبب تغلب المصالح الشخصية والفئوية وعجز المسؤولين عن التلاقي والتفاهم.

تجب المجاهرة بأن وضع لبنان بلغ مرحلة خطيرة تحتم الموقف الصريح والكلمة الصادقة والقرار الجريء. السكوتُ جُزء من الجريمة بحق لبنان وشعبه، وغسلُ الأيادي اشتراك في الجريمة. لا يجوز بعد اليوم لأي مسؤول التهربُ من المسؤولية ومن الواجبات الوطنية التي أنُيطت به تحت أي ذريعة.إن الوضع تخطى الحكومة إلى مصير الوطن. وعليه ،كلُ سلطة تتلاعب بهذا المصير وتتخلى عن الخيار الوطني التاريخي تفقدُ شرعيتها الشعبية.

شعبنا يحتضر والدولة ضمير ميت. جميعُ دول العالم تعاطفت مع شعب لبنان إلا دولته. فهل من جريمة أعظمُ من هذه؟ نادينا فلم يسمعوا. سألنا فلم يُجيبوا. بادرنا فلم يتجاوبوا. لن نتعب من المطالبة بالحق. وشعبنا لن يرحل، بل يبقى هنا. سينتفضُ من جديد في الشارع ويطالبُ بحقوقه، سيثورُ، ويحاسب. سلبيتُكم تدفعُه قسرا نحو السلبية. استخفافُكم بألآمه ومآسيه يدفعُه عنوة نحو خيارات قصوى. وفوق ذلك استُنفدت جميع المبادرات والوساطات اللبنانية والعربية والدولية من دون جدوى وكأن هناك إصرارا على إسقاط الدولة بكل ما تمثل من خصوصية وقيم ودستور ونظام وشراكة وطنية. مهلا، مهلا أيها المسؤولون! فلا الدولة ملككم، ولا الشعب غنم للذبح في مسلخ مصالحكم وعدم إكتراثكم.

7. إن وضع لبنان المنهار، وهو بحسب مقدمة الدستور، عضو مؤسس وعامل ملتزم في جامعة الدول العربية، وعضو مؤسس وعامل ملتزم في منظمة الأمم المتحدة (فقرة ب)، يستوجب أن تطرح قضيته في مؤتمر دولي خاص برعاية الأمم المتحدة يثبت لبنان في أطره الدستورية الحديثة التي ترتكز على وحدة الكيان ونظام الحياد وتوفير ضمانات دائمة للوجود اللبناني تمنع التعدي عليه، والمس بشرعيته، وتضع حدا لتعددية السلاح، وتعالج حالة غياب سلطة دستورية واضحة تحسم النزاعات، وتسد الثغرات الدستورية والإجرائية، تأمينا لإستقرار النظام، وتلافيا لتعطيل آلة الحكم عدة أشهر عند كل إستحقاق لإنتخاب رئيس للجمهورية ولتشكيل حكومة.

8. إننا نطرح هذه الأمور لحرصنا على كل لبناني وعلى كل لبنان. نطرحها للحفاظ على الشراكة الوطنية والعيش المشترك المسيحي/الإسلامي في ظل نظام ديمقراطي مدني. لقد شبعنا حروبا وفتنا واحتكاما إلى السلاح. لقد شبعنا اغتيالات، وقد أدمى قلبنا وقلوب الجميع في اليومين الأخيرين استشهاد الناشط لقمان محسن سليم، ابن البيت الوطني، والعائلة العريقة. إن اغتياله هو اغتيال للرأي الآخر الحر، ودافع جديد لوضع حد لكل سلاح متفلت يقضي تدريجيأ على خيرة وجوه الوطن. وإذ نعزي عائلته وأصدقاءه، ندعو الدولة إلى الكشف عن ملابسات اغتياله وعن الجهة المحرضة على هذه الجريمة السياسية النكراء.

9. نحن من جهتنا لن نقبل القدر لأننا أبناء الإرادة، ولا المصير المجهول لأننا أصحاب مصيرنا. لن نقبل هذا الانحراف لأننا أهل الخط المستقيم، ولا الهدم لأننا أهل بناء. لن نقبل الأمر الواقع لأننا أهل الشرعية والدستور، ولا التواطؤ لأننا أهل موقف وطني. وسنسير في هذا الموقف الوطني حتى إنقاذ لبنان.

إننا في كل ذلك وبكل ايمان ورجاء نتكل على عناية الله ونعمته. له المجد والشكر، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

عن Editor1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *