ألقى رئيس كتلة “المستقبل” الرئيس فؤاد السنيورة كلمة، في احتفال اقامته “دار الشروق” المصرية في فندق “ماريوت” في القاهرة لمناسبة صدور كتاب مذكرات الامين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى، في حضور الامين العام للجامعة احمد ابو الغيط وحشد من المثقفين والمهتمين، اعتبر فيها ان “الإصلاح الديني أمر في غاية الأهمية ويكون من طريق النهوض الفكري والحيلولة دون نشوء أجيال جديدة على التطرف وعلى معاداة دولنا الوطنية ونشر العنف في العالم. ويكون كذلك من طريق تقوية المؤسسات الدينية المستنيرة والمنفتحة والعاملة على تجديد الخطاب الديني الذي يحض على العلم والتعلم ويؤكد ثقافة العمل والإنتاج، ويشجع على التفكير النقدي في مجتمعاتنا من أجل تغيير الرؤية للعالم لدى أجيالنا العتيدة. وهذا يعني تأكيد عدم استتباع تلك المؤسسات الدينية للأنظمة أو استخدامها لأغراض سياسية. كذلك أيضا التشديد على عدم تدخل تلك المؤسسات بأعمال الدولة والحكم، من خلال تأكيد فصل الدين عن الدولة وبالتالي فض الاشتباك بين الدين والدولة.
ورأى اننا “دخلنا نحن العرب في زمن الاضطراب والتشقق ونحن الآن في إحدى حالين: حال الخوف من الدولة، وحال الخوف عليها. وكلتا الحالين غير صحية، وإن تكن الحالة الثانية، أي حال الخوف على الدولة، ضرورية الآن لاستعادة الوعي بالبنية الأساسية لمهمات الدولة وسويتها وقدراتها ومدى أهميتها لاستقامة نظام المصلحة الوطنية والعربية”.
وشدد على ان “هناك ضرورة فائقة لاستعادة تجربة الدولة الوطنية الناجحة، بالتلازم مع ضرورة أخرى هي الوظيفة العامة التي تتسم بالاحتراف والكفاية”، وسأل: “لكن ماذا بعد أو مع الاحتراف والكفاية؟”.
وقال: “ليست هذه المرة الأولى التي أجد فيها نفسي مندفعا للحديث عن الدكتور عمرو موسى باعتبار شخصيته ومساره نموذجا لعمل ثلاثي الأبعاد في الوظيفة العامة، وفي العمل الوطني والقومي من خلال وزارة الخارجية المصرية والأمانة العامة للجامعة العربية.
إن المناسبة هي صدور مذكرات الدكتور عمرو موسى عن عمله الوظيفي والسياسي، والوطني والاستراتيجي. ومن خلال هذه السيرة الذاتية ومن خلال تحولات المسار ونجاحاته وتحدياته وإرغاماته، ومن خلال الآفاق الحاضرة والمستقبلية لهذا العمل السياسي الكبير على مدى أربعة عقود ونيف، هناك مساحة رحبة للتأمل والتفكير التقويمي والنقدي والاستشرافي المستنير والجامع.
إن الأزمة التي تعانيها أمتنا ودولنا ولا سيما منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، ليست عادية أو عابرة في مسار الدولة الوطنية العربية في القرن العشرين.
ولأسباب مختلفة وعديدة، كان الأستاذ المصري الراحل والبارز نزيه الأيوبي قد قومها في كتابه: “تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط-Overstating of the Arab State “، الصادر عام 1994 بأنها بلغت حالة الانسداد، على مستوى سائر وظائف الدولة الحديثة: الوظيفة العامة أو بيروقراطية الدولة وقدرتها على القيام بمهماتها الأساسية في إدارة المصالح العامة، وإدارة العمل السياسي الداخلي، وإدارة السياسات الخارجية، وإدارة العمل العربي المشترك. ولا ينبغي ان ننسى أن الرجل كتب كتابه بعد حرب الخليج الثانية أو تحرير الكويت 1990- 1991.
إن مذكرات عمرو موسى لربما تختلف عن سائر أعمال السير الذاتية التي صدرت لسياسيين عرب عملوا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. فتلك المذكرات لا تقصد إلى التبرير والتسويغ، ولا إلى ذكر الإنجازات، ولا إلى التأريخ، أو ذكر نتائج السياسات الإيجابية أو السلبية للدولة المصرية والدول العربية الأخرى. إن أبرز ما فيها هو استعراض سيرة رجل امتلك وعيا قويا بتحديات المسارين الوطني والعربي، وسط الانسدادات التي نالت من بنية الدولة الوطنية، وليس فقط من سياساتها الداخلية والخارجية، وعلائقها بالعالم. فالدولة المصرية هي أعرق دول المنطقة العربية والإفريقية والآسيوية في مجال بناء الوظيفة العامة في الدولة الوطنية الحديثة. والدكتور موسى يطلعنا من خلال سيرته الذاتية أول ما يطلعنا على كفاحات المسار الوظيفي في وزارة الخارجية المصرية، والتي كان لها هدفان: العمل المؤسسي والمحترف الذي طبع أعمال الدولة المصرية من جهة، والتحديان المتلازمان في هذا العمل: تحدي المواجهة مع إسرائيل من جهة، وتحدي العمل العربي المشترك الذي كان له هدفان أو حكمه عاملان أيضا وبدوره: دور مصر المتميز في العمل العربي منذ نشأة وزارة الخارجية المصرية، وقيادتها لهذا العمل منذ قيام الجامعة العربية في الإسكندرية عام 1945.
لقد كانت هناك شخصيات مصرية أخرى قبل عمرو موسى ادت الدورين: في وزارة الخارجية المصرية، وفي الجامعة العربية. لكن عمرو موسى، وبسبب طول المدة الاحتراف والمعايشة لمختلف المراحل، كان في وسعه أن يتأمل ويفعل، من ضمن أعراف الوظيفة العامة في الدولة، ومن ضمن الدور المتميز لجمهورية مصر العربية، ومن ضمن العلاقات العربية والدولية لمصر في زمن ازدهار العمل العربي المشترك، وكذلك في زمن تراجعه وانكساره. إلا أن هناك أمرا آخر تميز به مسار عمرو موسى في وزارة الخارجية، وفي الجامعة العربية. ففي زمن عمرو موسى فقط ويكاد يكون للمرة الأولى، صارت أعماله في وزارة الخارجية، وفي الجامعة العربية، وبسبب شخصيته المتميزة، ذات شعبية ومتابعة في الداخل المصري، وهي ميزة ما عرفتها إلى هذا الحد قبله أعمال الوزراء المصريين الآخرين للخارجية والأمناء المصريين الآخرين للجامعة العربية قبله.
ما هو البارز في مسار عمرو موسى الوظيفي؟ في العقود الأخيرة صارت الوظيفة العامة أو البيروقراطية سبة، ليس في المجال العربي فقط، بل حتى وفي المجال العالمي. والحجة ضآلة الكفاية، والفساد. وهذا الأمر فيه الكثير من التجني الناجم في مجالنا العربي عن الفشل في أعمال الدولة الوطنية وفي المشكلات التي نجمت عن ممارساتها الداخلية والخارجية. كما أنه ناجم عن الطابع الثوري للأنظمة التي قامت على أكتاف الضباط، وصارت البيروقراطية أو إدارة المصالح العامة للمواطنين وبما راكمته من انطباعات سيئة لدى عامة الناس، تعتبر حائلا دون التغيير الثوري. لكن كان من حسن الحظ ان هذه السلبية ربما لا تنطبق كثيرا على مصر، بقدر ما تنطبق على الأنظمة الأخرى في العالم العربي، في النصف الثاني من القرن العشرين.
هناك من يقول أنه ما كانت هناك تفرقة قوية في مصر بين أهل الثقة وأهل الكفاية. ولذلك ربما ظلت هناك ميزة أساسية للإدارة المصرية في مراتبها العليا حاضرة وبارزة، وهي الاحتراف. وهي الميزة أو الخصيصة التي يطلعنا عمرو موسى عليها خلال عمله في وزارة الخارجية المصرية لسنوات طويلة. فهو ما احترف العمل الإداري في الوزارة فقط، بل واحترف معرفة العالم العربي، والمجال الدولي، بالمتابعة اليومية، ومع التمادي والتطاول: بالخبرة والتجربة. وهكذا توافرت في شخصيته وعمله الميزات الأربع الرئيسية للإدارة في الدولة الحديثة: الاحتراف، والكفاءة، والرؤية الواسعة والصحيحة لأحوال العالم، والقدرة على التلاؤم المستمر مع المتغيرات والتحولات.
والاحتراف هو الشأن الدائم في الإدارة العامة، لكنه لا يصبح ميزة بالفعل إلا مع الكفاية والرؤية الواسعة والصحيحة والقدرة على التلاؤم المستمر، وبالتالي بالاقتران بينها جميعا. ولذلك فإن عمرو موسى صار، كما سبق القول، ظاهرة وسط الانسدادات التي نالت من فاعلية الدولة الوطنية وأدائها لوظائفها. وهي الانسدادات التي نالت أيضا من سمعة الإدارة التي تريد أن تكون ناجحة في عيون المواطنين، ومنها ما يتعلق بوزارة الخارجية وعملها في المجالين العربي والعالمي.
بعد حرب تحرير الكويت، كان الوضع العربي قد بلغ ذروة توتره. ولأن الجامعة العربية كان اجتماعها متعذرا آنذاك، فقد أقامت مصر والمملكة العربية السعودية مجموعة عربية للاهتمام بأمور أربعة:
1 – مرافقة الإعدادات لمؤتمر مدريد.
2 – التفكير في إعادة اجتماعات الجامعة العربية.
3 – تفعيل العمل العربي المشترك.
4 – وكيف يمكن العمل على رفع الحصار عن العراق.
وهذه الأمور كلها كانت في حاجة إلى نسج علاقات دولية أخرى وجديدة وسط تفكك الاتحاد السوفياتي وتواريها، وصعود الهيمنة الأميركية. وفي هذه الأمور كلها أيضا كان لمصر ولوزارة خارجيتها دور بل أدوار بارزة، وبخاصة أن الضعف والانقسام العربي الناجم عن حرب الخليج، شجع سائر الأطراف العرب على القيام بتصرفات منفردة، وبالذات المفاوضات الفلسطينية مع الإسرائيليين والتي أفضت إلى اتفاق أوسلو عام 1993.
كل الجهات العربية وغير العربية في العالم، أرادت التواصل والإفادة من الاقتراب من القوة الأعظم بعد انهيار توازنات الحرب الباردة، وبروز الولايات المتحدة قوة أعظم ووحيدة. وبصفتها هذه أرادت صنع ما سماه الرئيس جورج بوش (الأب): نظام العالم الجديد، كما أرادت تعويض العرب – كما زعموا – عن ضرب العراق، بالوصول إلى تسوية في القضية الفلسطينية، لكن إذا كانت شكوانا كبيرة بالأمس واليوم من الخواء الاستراتيجي العربي، ففي تلك اللحظة، أي بين 1991 و1995 فإن هذا الخواء في الوضع الاستراتيجي العربي كان قد بدأ بالتكون ليتخذ صورته القاسية والصادمة بتداعياتها المذهلة بعد احتلال العراق وفكفكة الدولة العراقية وتسريح الجيش العراقي. لكنه وفي منتصف تسعينات القرن الماضي، وفي السياسات الخارجية للعرب برز الدكتور عمرو موسى، والأمير الراحل سعود الفيصل، ووزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام. إنما المشكلة أن سوريا كانت تجري هي أيضا مفاوضاتها الخاصة مع الولايات المتحدة التي بدأت تتوسط بينها وبين إسرائيل، وكانت سوريا، في الوقت نفسه، منزعجة جدا لأن الفلسطينيين أجروا مفاوضاتهم الخاصة! وهكذا ما كان هناك تعاون وتنسيق حقيقي وكامل بين تلك العواصم الثلاث، حيث لا أسرار ولا تكتمات فيه إلا بين وزارتي الخارجية في السعودية وفي مصر. وكما سبق القول فإن المصريين والسعوديين كان عندهم عدة هموم وليس هما واحدا: طريقة العودة إلى سياسات التضامن العربي من خلال الجامعة العربية، وطريقة احتضان العراق في ظل الحصار الدولي له، وأخيرا وليس آخرا: ماذا يجب فعله لدعم الفلسطينيين رغم عدم تعاونهم وعدم إطلاع الفريقين المصري والسعودي على المفاوضات السرية الجارية في حينها في أوسلو بينهم وبين الإسرائيليين.
ولقد كان من حسن الحظ، والخيار الصحيح للقيادة المصرية، أن هذا الديبلوماسي الرائع والمجرب عمرو موسى، وهو الذي أسهم بأسلوبه ومستندا إلى النفوذ المصري في محاولة استعادة التوازن إلى الوضع العربي، جرى اختياره في ما بعد لقيادة الجامعة العربية في فترة من أصعب فتراتها، مثل تفجيرات القاعدة في الولايات المتحدة، وغزو العراق ونشوب الحرب الأهلية فيه، وبروز إيران لاعبا مقلقا على الساحتين العربية والدولية: في الملف النووي، وفي التدخل في العراق، وفي توجيه “حزب الله” وفي دفعه إلى إعطاء الذريعة لإسرائيل في شنها لحربها على لبنان في العام 2006، وفي احتلال حماس لغزة عام 2007، وبعد ذلك إلى احتلال حزب الله لبيروت عام 2008 وفرض شروطه عقبها على الدولة اللبنانية، في محاولة لاستكمال الهيمنة الإيرانية وبدرجات متفاوتة على القرار في العواصم العربية الثلاث في المشرق العربي.
وما تحرك عمرو موسى كثيرا بين الدول العربية، وبين عواصم القرار في العالم فقط، بل إنه قدم مبادرات سياسية واستراتيجية، وعمل، من ناحية أخرى، على رفع كفاية الجامعة بالسعي إلى تطوير مؤسساتها، وفتح المجال لإطلاق مفوضيات جديدة. ولقد كانت فكرته صحيحة أنه إذا كانت الدول العربية منقسمة أو مختلفة على هذا الأمر أو ذاك، فإن الشعوب العربية لا تنقسم في وعيها واهتماماتها، وأن الجامعة تستطيع جمع القوى الشعبية والثقافية المستنيرة والفاعلة في سائر المجتمعات العربية من حول أهداف تنموية ونهضوية مشتركة لا تنافس السياسيين، ولا تتحداهم، وإنما تضيء على جوانب مهمة لتعزيز التضامن والتكامل والتطلع إلى الأمام لتحقيق النهوض الوطني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهي أمور قد لا يتنبه لها بعض السياسيين أو قد لا تكون بين أولوياتهم.
في عهد عمرو موسى عادت مؤتمرات القمة للانعقاد، وانتظمت اجتماعات وزراء الخارجية، وعادت القضايا والمشكلات لتستدعي عقد اجتماعات ولجانا ومندوبين، كما عادت المتابعة والمبادرة لتصبح سمة رئيسية من سمات عمل الجامعة العربية وجهودها.
لقد كان عند الأخ والصديق عمرو موسى دائما ما يقوله، وما يستحق الاستماع إليه، وأخذه بجدية، سواء اكان المستمعون من المسؤولين العرب أو بعضهم مؤيدين أو معترضين. ولا يظهر ذلك كثيرا في المذكرات التي بين أيدينا، لكنني أعرف ذلك عن كثب منذ العام 2005 على الأقل، وبعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وحين صرت رئيسا للحكومة اللبنانية، وصار الدكتور عمرو موسى كثير التردد على لبنان بسبب كثرة مشكلاته، واهتمام العرب والجامعة بلبنان. وقد كان عمرو موسى ولا يزال صديقا للبنان ولي، كما كان صديقا للرئيس المغفور له بإذن الله تعالى رفيق الحريري من قبل.
منذ الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، صار تواصلي مع الأمين العام للجامعة العربية شبه يومي. وكان هو بصوته المتفائل يتصل بي من مصر ليقول لي: أردت أن أطمئن منك على صحة لبنان العزيز اليوم! وقد تجاوز بذلك وظيفته أو وظائفه، لأنه استمر على ذلك حتى بعد مغادرته للأمانة العامة للجامعة في التواصل الدوري معي، إذ إن صحة لبنان، بل وصحة كل البلدان العربية، كانت ولا تزال همه الدائم باعتباره قوميا عربيا، وباعتبار وعيه العميق بالهوية والانتماء، وضرورات التطلع إلى المستقبل، في ضوء ضرورة العودة إلى تصويب البوصلة نحو ما يجب القيام به. فكلانا، انا وهو، كنا ندرك ولا نزال حجم المشكلات التي تعصف بمنطقتنا العربية. من تفشي آفة الاستبدادات والديكتاتورية وإلى توسع آفة التطرف والمذهبية وانتشار الأصوليات والانشقاقات بداخل الإسلام وكذلك تصاعد حدة العنف وتفشي ظاهرة الإرهاب وآفة التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية، مما يعمق من حدة الاختلال في سيادة ووحدة مجتمعاتنا ودولنا العربية.
لكن، ومع إدراكنا لعظم هذه المشكلات، فإننا كنا وما زلنا – أنا وهو – شديدي الحرص على ألا تنكسر إرادة الأمة ولا أن يستكين مواطنوها للأسى واليأس أو يستبد بهم الإحباط أو الرضى أو القبول بسلوك طريق التشدد أو السكوت عن الانزلاق إلى العنف الموصل إلى الوقوع في وهدة الإرهاب ظنا من البعض أن ذلك قد يسهم في إيجاد حلول للمشكلات المتناسلة والمتفاقمة التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية.
كذلك فقد كنا أيضا على إيمان قوي بدور مصر العربي الرائد والمبادر وبأن مصر تملك من الأمة هذا التكليف، وتملك من القدرة المعرفة بالأوضاع العربية وجوانبها الإقليمية والدولية، ما يجعل معظم العرب على ثقة بأن مصر التي عرفوها، والتي جربوا معها منذ قرون هي مصر التي يعرفونها ويأمنونها ويحبونها وينتظرون منها أن تبادر للتوجيه والإنقاذ.
لقد أتيح للأستاذ عمرو موسى بالكفاية وبالملاءمة ما لم يتح إلا لثلاثة أو أربعة من العاملين في الشأن العام في مصر خلال تاريخها وتاريخنا الحديث. وأعني بهما، العمل وزيرا للخارجية في مرحلة حاسمة من حاضر مصر والعرب، وهي مرحلة التسعينات. ثم العمل أمينا عاما للجامعة العربية في أخطر مراحل تاريخ العرب الحديث. لقد ذكرنا الأهمية الفائقة لقيام الدولة الوطنية العربية من كبوتها أو كبواتها – فما هي الجامعة العربية؟ الجامعة العربية، أيا تكن آليات اتخاذ القرار فيها، هي حصيلة التلاقي والتضامن بين الدول الوطنية العربية. وهي المؤسسة التي لا تزال، وبالرغم من العقبات الكثيرة التي تعترضها، فإنها تظل البوصلة وبالتالي تستطيع، وبقيادة الأخ والصديق سعادة الأمين العام معالي الأستاذ احمد أبو الغيط، أن تدفع في اتجاه تعزيز العمل العربي المشترك، وكذلك تعزيز مجالات التكامل والتعاون بين الدول العربية من أجل تعزيز جهود تحقيق النهوض العربي وكذلك من أجل استعادة التوازن الاستراتيجي في المنطقة العربية الذي اختل بسبب طغيان حال التراجع والانكفاء العربي واشتداد حدة الخلافات العربية – العربية وزيادة حدة التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية في شؤون دولنا العربية.
عندما كثر الحديث في الأربعينات من القرن الماضي عن ضرورة إقامة مجموعة تضامنية عربية، يقال إن رئيس وزراء مصر الراحل مصطفى النحاس باشا رحمه الله علق على ذلك أن “العرب مجموعة أصفار، وصفر + صفر = صفر!”، لكنه كان، رحمه الله، وهو الزعيم الوطني المصري الكبير مخطئا. فقد أمكن بالتعاون بين مصر والسعودية إقامة الجامعة، كما أمكن دفع أو إقناع الدول العربية الأخرى بالانضمام إليها. وقد أمكن القيام بذلك كله لان النظامين المصري والسعودي كانا نظامين ناجحين وناهضين، ويهدفان بالفعل الى البناء على المصالح المشتركة، وتعزيز التكامل بما يستعيد التوازن الاستراتيجي في المنطقة العربية وكذلك في منطقة الشرق الأوسط. وهي الأمور التي وعاها الجمهور العربي آنذاك، وهو اليوم أكثر وعيا وإدراكا لأهميتها وضرورتها. إننا بالأمس واليوم وغدا في الموقف والموقع ذاته، لكن الضرورات أكبر وأقسى. كان لدينا وقتها هم الاستقلال، وهم الحيلولة دون ضياع فلسطين. ولدينا اليوم إلى الهم الفلسطيني الباقي، هموم سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان ولبنان، وما هو أفظع وأشد: اليأس وفقد الثقة بالنفس وبالعالم.
يقول عمرو موسى في المذكرات إنه كان يتحرك أحيانا على سبيل الديبلوماسية الاستباقية! أما اليوم فكل الأزمات متفجرة، وما عاد الاستباق ممكنا أو انه صار متعذرا. لكن في ضوء المذكرات، وفي تطواف من حول الأزمات العاصفة في العالم العربي، من أين نبدأ، وما العمل؟
لقد كان عمل الأستاذ عمرو موسى طوال توليه مسؤولياته وزيرا للخارجية وأمينا عاما للجامعة يمارس عمله بعقلية السياسي ورجل الدولة، في مواجهة الأزمات المتعاظمة التي تعانيها دولنا منذ عقود عدة، والتي تفاقمت خصوصا بعد العام 2010. وهو في ذلك كان يدرك وأنا معه أن أولى الأولويات وأخطر المهمات في مساعينا جميعا، هي في العمل على استنقاذ الدولة الوطنية العربية، وهذا عمل من أعمال السياسة الكبرى. وبالتالي فإن سلوك هذا الطريق يؤدي إلى تصحيح المسار والنهوض بأعمال الدولة التي تفضي إلى المهمتين الأخريين وهما: استعادة السكينة في الدين بإخراجه من بطن الدولة، والخروج من أوهام البدائل، وتصحيح العلاقة بعالم العصر وعصر العالم.
لقد حدثت في أوساطنا انشقاقات دينية. وهي في قسم وافر منها ناجمة عن التراجع الفكري والثقافي. لكنها ناجمة أيضا عن فشل الدولة الوطنية العربية في مرحلتها العسكرية والأمنية. لم يكن شبابنا لينجذبوا ولن ينجذبوا إلى وهم الدولة الدينية، إذا كانت لديهم أنظمة للحكم الصالح. إن الإصلاح الديني أمر في غاية الأهمية ويكون من طريق النهوض الفكري والحيلولة دون نشوء أجيال جديدة على التطرف وعلى معاداة دولنا الوطنية ونشر العنف في العالم. ويكون كذلك من طريق تقوية المؤسسات الدينية المستنيرة والمنفتحة والعاملة على تجديد الخطاب الديني الذي يحض على العلم والتعلم ويؤكد ثقافة العمل والإنتاج، ويشجع على التفكير النقدي في مجتمعاتنا من أجل تغيير الرؤية للعالم لدى أجيالنا العتيدة. وهذا يعني التأكيد على عدم استتباع تلك المؤسسات الدينية للأنظمة أو استخدامها لأغراض سياسية. كذلك أيضا التشديد على عدم تدخل تلك المؤسسات بأعمال الدولة والحكم، من خلال تأكيد فصل الدين عن الدولة، وبالتالي فض الاشتباك بين الدين والدولة.
إن الذي يبقى في الوعي والعمل: ضرورة استنقاذ الدولة الوطنية. بل إنني أزعم أن لا طريق لاقتحام المهمتين الثانية والثالثة إلا طريق الدولة الوطنية العربية الناهضة والناجحة. وعلى ذلك، نحن محتاجون في النهوض بالدولة الوطنية إلى التعظيم من شأن احترام الشرعية الدستورية واحترام دولة القانون والنظام والتركيز على مجالات التعاون والتكامل العربي وإعطاء القدر الكافي من الاهتمام للخدمة العامة بما يعني ذلك من تعزيز للإنتاجية، والنهوض بالتعليم والصحة والبيئة والنقل العام والاتصالات والبحث العلمي ورعاية الشباب والمرأة والنهوض الثقافي والاجتماعي، والحرص على سلامة السياسات المالية والنقدية والاقتصادية الرشيدة والموجهة لتعظيم النمو والتنمية الاقتصادية، وتعظيم الموارد، وبالتالي تعظيم فرص العمل الجديدة من امام الأجيال الشابة وتعظيم إمكانيات الإنفاق على المرافق الأساسية التي ذكرناها، والتي من طريق النجاح فيها، تتصحح العلاقة بين الجمهور وتستقيم إدارة الشأن العام ويستقيم النظام السياسي، ويستقيم أمر الشرعية فيه. والدعامتان الأساسيتان لذلك كله: احترام حكم القانون واحترام النظام، واستعادة الوظيفة العامة لاحترامها واتساقها، واحترافها، وجدارتها، وكفاءتها، والحرص على ممارسة الذكاء، والترشيد في أمور تعزيز مستويات الأداء وتحسين مجالات الملاءمة.
لا شك عندي أن الكثير من المعارف والأصدقاء، ومن الذين مارسوا العمل العام، وراكموا خبرات هائلة، يعرفون أنني لست إنشائيا في ما أقوله. فالوظيفة العامة لا تبدأ من فراغ، بل هي تراكم على ما سبق في الموقع نفسه أو في ما يجاوره ويؤثر فيه. وما يؤثر فيه هو الدولة الوطنية وسياساتها والاستراتيجيات التي صارت عرفا او أعرافا. ولقد قلت من قبل إن هذه الأعراف جرى أحيانا احتقارها أو تجاوزها من جانب الحكومات أو الأنظمة الثورية، وما حصل هذا في مصر. لكن الذي حصل أن الوظيفة العامة جرى إلحاقها بالبيروقراطية الثورية الجديدة. ولذلك يقتضي فعلا انتشالها من المواقع السلبية التي دفعت إليها لكي تصبح أداة أساسية في إنجاح عمل دولنا الوطنية وفي تحقيقها للإنجاز المطلوب.
لقد دخلنا نحن العرب في زمن الاضطراب والتشقق ونحن الآن في إحدى حالين: حال الخوف من الدولة، وحال الخوف عليها. وكلتا الحالين غير صحية، وإن تكن الحالة الثانية، أي حال الخوف على الدولة، ضرورية الآن لاستعادة الوعي بالبنية الأساسية لمهمات الدولة وسويتها وقدراتها ومدى أهميتها لاستقامة نظام المصلحة الوطنية والعربية.
هناك ضرورة فائقة لاستعادة تجربة الدولة الوطنية الناجحة، بالتلازم مع ضرورة أخرى هي الوظيفة العامة التي تتسم بالاحتراف والكفاية. لكن ماذا بعد أو مع الاحتراف والكفاية؟
في العام 1919، كانت ألمانيا قد انهزمت في الحرب الأولى، وكانت المدن مضطربة وغاصة بالتنظيمات المسلحة من اليسار أو اليمين. في ذلك الوقت، دعا اتحاد طلاب جامعة ميونيخ السوسيولوجي الألماني الكبير ماكس فيبر Max Weber الى إلقاء محاضرة عما يستطيع العالم أن يقدمه للإنقاذ، فاختار أن تكون المحاضرة قسمين: واحدة بعنوان: “العلم باعتباره حرفة”، والأخرى بعنوان: “السياسة باعتبارها حرفة”. وفي كلتا المحاضرتين ركز على أهمية الاحتراف في الأكاديميات، وفي العمل السياسي. لكنه في الحالين قال إن العالم يمكن ان يكون أستاذا جيدا، لكنه لا يستطيع أن يبدع ويخترع إلا إذا كان صاحب رسالة. والسياسي يمكن ان يكون بالاحتراف متقنا، لكنه من دون الرسالية والوعي الفائق بمهمات العمل العام وإمكاناته، لا يمكن ان يكون مبدعا وبناء.
نحن محتاجون، وعلى هدي سيرة عمرو موسى، ولإنقاذ الدولة الوطنية العربية، واستعادة نظامي المصلحة الوطنية، والمصلحة العربية، إلى الاحتراف والكفاية والرسالية في العمل العام الوطني والعربي، والذي تندفع به سائر فئات المواطنين وبخاصة السياسيون والمثقفون والإعلاميون وعلماء الدين وفئات المجتمع المدني من سيدات ورجال، أي كل القوى الاجتماعية. ولست أتوهم عندما أعتبر ان تعب المعادن الذي نال من صحتنا أو صبرنا ما نال من وعينا ومن عزائمنا، لأنه من دون استنقاذ نظام الدولة، ونظام المصلحة العامة، فنحن سائرون إلى المزيد من التردي وإلى المزيد من الغرق في تفاصيل خسائرنا المتزايدة.
إن التاريخ لا يعيد نفسه، وإن فعل، فكما قال عنه كارل ماركس “مرة مأساة، ومرة ملهاة!”. إن الثابتين العربيين الآن، واللذين سيبقيان للعرب على طول الزمان بعون الله هما: مصر كنانة الله في أرضه، والمملكة العربية السعودية. وكما أقامت الدولتان الجامعة العربية، يمكنهما، بل يكون ضروريا القيام من جانبهما بإحيائها أو بعث الروح في أوصالها. كان البعثيون في سوريا والعراق يقولون: إن شرط نجاح الجامعة يتمثل في فشل ما سموه الدولة القطرية! وأنا أرى أن شرط نجاح الجامعة بالذات هو نجاح الدولة الوطنية العربية، فلا عمل مشترك إلا بين دول ناهضة وناجحة، الدول أو الدولة التي قال عنها جمال عبد الناصر إنها تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تقوي ولا تضعف، توحد ولا تفرق، تسالم ولا تفرط، تشد أزر الصديق، وترد كيد العدو. وينبغي أن يكون ذلك وأن يحدث اليوم قبل الغد.
شكرا ل”دار الشروق” والصديق العزيز إبراهيم المعلم على نشر الكتاب وعلى الدعوة الى المشاركة في هذا الاحتفال.
تحية للصديق الأستاذ عمرو موسى في مناسبة صدور مذكراته، وفي مناسبة استمرار عمله من خلالها على استعادة بناء الوعي، وبناء العمل الوطني والعربي. أنا أعمل منذ سنوات مع الدكتور عمرو موسى في مجلس أسهمنا في تشكيله للتحرك على المستوى العربي هو “مجلس العلاقات العربية والدولية”، وأعرف أن عمرو موسى، كما أسهم في بناء الدستور المصري الجديد، فإنه لا يزال يعمل على الإسهام في بناء نظام العلاقات العربية الجديد:
“فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.